بحدود عام 1983 بدء الدفء يدب في عروق العلاقات العراقية
المصرية بعد طول جفاء حيث وقع الجانبان على برتكول للتبادل التجاري بينهما عرف
بالصفقة المتكافئة أي أن أثمان بيع منتجات أحدهما الى الآخر تدفع عينا لا نقدا ببضائع يريد الآخر
شرائها بسبب أن البلدين يعانيان من شحة شديدة في السيولة فالعراق إستنزفته الحرب
العراقية الإيرانية المدمرة ومصر إستنزفتها الحروب العربية الإسرائيلية السابقة بالإضافة
الى البركة العالية في وتيرة تكاثر سكانها .
عممت الحكومة العراقية على وزاراتها ومؤسساتها برتكول
الصفقة المتكافئة وطلبت منها الإنخراط في إنجاح الصفقة بالتصدير الى مصر والشراء
من مصر قدر الإمكان .
أمسكت بالتعميم وذهبت الى رئيس المؤسسة العامة للمعادن
التي أعمل فيها مديرا لتصدير الفوسفات وإقترحت عليه أن نقوم بإستطلاع حاجة مصر
لمنتجاتنا من الأسمدة الفوسفاتية والكبريت
خصوصا وأن لدي معلومات تشير الى أنها مستورد كبير للمادتين المذكورتين .
حصلت الموافقة على إيفادي ومهندس من الشركة العامة
للفوسفات لهذا الغرض.
وبينما كانت الطائرة تطوي الأميال بإتجاه القاهرة كنت
أنا أنظر من النافذة وخيالي يسرح مع نجيب محفوظ في حواري وأسواق خان الخليلي وفي أرياف مصر مع توفيق الحكيم متأسيا
في نفس الوقت للقدر المفجع الذي حل بآمال شباب
أبطال قصة تحت ظلال الزيزفون مع المنفلوطي وكان هناك بي شوق ولوعة لكل شيء في مصر التي عشنا بها من خلال كتابها في ريعان شبابنا .
حطت الطائرة في مطار القاهرة ، دخلنا بناية المطار ووقفنا في الطابور على موظف الجوازات .
تصفح الموظف جواز سفري وأوما إلى آخر فجاء وإصطحبني الى
مصطبة خارج غرف على جانب الصالة وطلب مني الإنتظار هناك وسرعان ما جاء بصاحبي حيث
جلسنا نراقب الأجانب في طابور الجوازات تطمغ جوازاتهم في لمح البصر ويخرجون .
نودي علينا للدخول على ضابط في أحد الغرف ، حيث أشار
علينا بالجلوس وبادر بسؤالنا من نحن ولما أتينا إلى مصر . قدمنا أنفسنا وشرحنا
الهدف من زيارتنا معززا بنسخة من بروتكول الصفقة المتكافئة .
تصفح الضابط جوازاتنا والفيزا المصرية عل الجوازات
وبرتكول الصفقة المتكافئة ثم رفع رأسه سائلا : حد فيكم كان ضابط جيش أو ضابط شرطة ؟
أجبنا بالنفي بطبيعة الحال .
قال : إتتفضلوا إستريحو برة .
خرجنا وجلسنا على المصطبة لحوالي ساعة أخرى نتصفح وجوه
الأجانب المارة من أمام موظفي الجوازات ثم نودي علينا مرة ثانية وكررنا ما طرحناه
سابقا وفي النهاية جاء السؤال مرة أخرى : هل كان حد فيكم ضابط جيش أو ضابط شرطة ؟
ولأزيده إطمئنانا هذه المرة قلت له كلانا لم يؤدي الخدمة
العسكرية أصلا وشرحت أن فئتنا العمرية خيّرت في حينه بين الخدمة أو دفع بدل نقدي
لأن الحكومة كانت في حاجة الى المال ونحن طبعا دفعنا البدل النقدي .
قال مرة أخرى : ممكن تستريحو برة شوية
وجلسنا على المصطبة نتصفح وجوه السياح الأجانب مرة أخرى
وبعد حوالي ساعة دخلنا على الضابط ليعيد : حد فيكم كان ضابط جيش والاّضابط شرطة ؟
عندها غلا الدم في عروقي وخرجت العروبة من نافوخي وصعدت فيه العراقية
قلت له : لو كنا كذلك لما تأخرنا عليك بالجواب فجيشنا
فخرنا وتابعت قد يتذكر جنابكم عبورر الجيش
المصري قناة السويس وإقتحامه لخط بارليف قبل عشر سنوات .
هل يعرف جنابكم أن سربين كاملين من
طائرات القوة الجوية العراقية كانت في الطلعة الأولى التي دكت حصون خط
بارليف وهل تعرف أن سيادة الرئيس محمد حسني مبارك قائد القوة الجوية آنذاك هو الذي
طلب شخصيا من العراق هذين السربين من طائرات الهوكر هنتر العراقية لأنها ذات طاقة
تدميرية أكبر من طائراتكم ولثقة السيد الرئيس العالية بشجاعة وإقدام ضباطنا ؟
ذهل الضابط فبادرته
قبل أن يتكلم أنا لست عسكري ولكننا في العراق لاننام ومصر أو سوريا تقاتل .
على أية حال هات الجوازات لنعود للعراق ونخبرهم أنكم لا
تحبوننا و ضباطنا وإن هذه الصفقة التجارية غير قابلة للتنفيذ .
اعتذر الضابط وإدعى أنها أسئلة روتينية خوفا من الخبراء
في المتفجرات وأن مصر بلدكم... والعراق بلدنا .... الخ ....
خارج المطار كان الملحق التجاري في الإنتظار .. إستغرب
لطول الوقت و قال: لولا أنني متأكد من
مجيئكم لغادرت المطار .
أخذنا الملحق الى فندق الماريوت الجميل فنبهته أن مخصصات
إيفادنا قد لاتكفي للسكن في هذا الفندق والمعيشة فأجاب وبكل صراحة : أعرف يادوب
تكفي ولكني أعرف أنكم بحاجة الى الراحة من طلايب الجيش الشعبي في بغداد وبهذلة
مطار القاهرة .
في اليوم التالي قابلنا السفير العراقي وحكينا له
بالتفصيل مادار في المطار وطلبنا إثارة الموضوع مع الجانب المصري ..
بعد يومين أو ثلاثة تبخر الحنق الذي شعرنا به جراء بهذلة
المطار وعاد الشوق الى زيارة حي الحسين وخان الخليلي والسيدة زينب والبحث عن زقاق
المدق .
اليوم وبعد أربعة وثلاثين عاما تقريبا وقبيل إستفتاء
الإستقلال في إقليم كوردستان العراق ، عاتبني صديقي الكوردي قائلا : تستكثرون
علينا تأسيس دولة كوردية واحدة ولديكم 22 دولة عربية !!
قلت له يا صاحبي : بغض النظر عن كل الجدال القانوني
وغيره حول الموضوع أنا لا أعارض إن كانت هذه رغبتكم ومصلحتكم بشرط أن تكون هناك
قسمة حق لا قسمة ضيزى بالنسبة للعرب وباقي المكونات ، وأما موضوع الـ 22 دولة عربية فأود أن أوضح أن
آلاف الشبان العرب ماتوا من أجل حلم الدولة العربية الموحدة وإن الأحياء من جيلي أضاعوا
شبابهم في النضال من أجل هذا الحلم وإن ما خرجنا به هو هذه الـ 22 دولة . وكما ترى
: الدول المتمكنة منها لم تستقبل نازحينا
وهي تعرف أنهم وأطفالهم سيقتحمون البحر هربا من الجحيم وتأكلهم الحيتان وأن
المسافر العراقي ومنذ تأسيس هذه الدول آخر من يطمغ جوازه بإذن دخولها من بين جميع
مسافري العالم .......