Tuesday, September 19, 2017

جرّة إذن




في أوائل الخمسينات من القرن الماضي كانت مدرسة الفيحاء الابتدائية للبنين المدرسة الوحيدة في الصوب الصغير(الجانب الصغير )  من الحلة وكانت تقع مباشرة على الشارع المحاذي لشط الحلة في بداية محلة كريطعة ونهاية محلة الكلج .

قبالة ركن المدرسة على الشط كانت هناك شجرة يوكاليبتوس ضخمة يستفيء بها  السيد جواد وقاربه الصغير (بلمه )  بدشداشته البيضاء وعركجينه (طاقيته) المخرم الأبيض بإنتظار نقل المعلمين الساكنين في الصوب الكبير على الجانب الآخر من النهر في نهاية الدوام  والتلاميذ المحالين الى المستوصف الصحي الذي يقع في الصوب الكبير أيضاً  يوميا   . كانت الأجرة عن عبور شط الحلة حسب تسعيرة جواد عنة (تلفظ عانة وتعادل أربعة فلوس) .وكانت النوارس البيضاء لاتبرح هذا المكان تطلق أصواتها وتمشط الشطآن من الجو بحثاً عن الرزق أو تركب  ألنهر صاعدة نازلة مع الموج وادعة مستمتعة .

كانت واجهة المدرسة العريضة على الشارع والشط بسياج بسيط لايحجب النظر عن  الساحة الخارجية غير المبلطة للمدرسة والتي كانت تشهد يوميا فعاليات درس الرياضة بالتناوب لجميع الصفوف . كانت أمهات الأطفال الصغار الجدد  ينتظرن خلف السياج ليتفرجن على أطفالهن   وهم يؤدون التمارين السويدية ويحلمن بهم كبارا أشداء في قادم الأيام .

بعد الساحة الخارجية تأتي باب المدرسة الداخلية حيث تتوزع الصفوف على شكل مستطيل  حول الساحة الداخلية غير المبلطة وبواقع ثلاثة صفوف تقريبا لكل سنة من الأول  حتى الصف السادس الإبتدائي . عند منتصف الصفوف الخلفية  هناك فراغ  بمساحة صف فيه منضدة لكرة الطاولة يحتكرها أولاد الصف السادس والخامس وعلى جانبها تقع باب غرفة المعلمين وباب كبيرة تفضي الى حديقة  مزدانة بأشجار الرارنج والبرتقال .

كانت المدرسة رغم ساحاتها  غير المبلطة وقدم بنائها فارهة جميلة يلعب التلاميذ  بين جنباتها ويعودون الى أعشاشهم كالعصفارير المزقزقة  مع رنة الجرس .

لكنه وكما يقال االشيء بالشيء يذكر كانت مرافق المدرسة خارجية عند نهاية ركنها الأيمن وكانت كسائر المرافق العراقية العتيدة لا يقتحم روائحها الخارقة  الا المضطر وغالبا ما ترى الفئران الكبيرة ( الجريدية ) تغوص وتخرج من جنبات خزائنها  المستورة تحت الحشائش النامية على سطحها  ، مع ذلك في تلك الأزمان لم يشكل كل هذا مشكلة.  إلا أن بعدها عن الصفوف  كان مشكلة حقيقية حيث يتوجب أن تقطع الساحة الداخلية لتخرج من الباب الداخلي الى الساحة الخارجية وبعدها تتوجه نحو الممر النازل بمحاذة الصفوف وتقطعه حتى تصل الى المرافق . في الحالة الإعتيادية ليس هذا بمشكلة لتلاميذ نشيطين صغار ولكنه يشكل معاناة هائلة  لمن يداهمه الإسهال فجأة  أثناء الدرس فبعد أن يأخذ الإذن عليه أن يطلق ساقيه للريح  ويعض على نواجذه وقد  ينجح  أو لا ينجح في قطع المسافة في الوقت المناسب   .

يبدأ الدوام عادة  بالإصطفاف بخطين متوازيين داخل أضلاع الساحة الداخلية الفسيحة وقد يحضر المدير إن كانت لديه أية تعليمات . يشرف على الساحة عادة ثلاثة أو أربعة معلمين وغالبا  ما يطلبون من كل صف أن يتقدم أحدهم ليقرأ نشيدا أو شعرا وكان النشيد المفضل لدى صغار التلاميذ هو لمن لايتذكره :

مليكنا مليكنا نفديك بالأرواح ..... عش سالما عش غانما يا فيصل ......

بوجهك الوضاح !!!!!...

ذهبت الى الفيحاء في يومي الأول مع أخي الأكبر الذي أصبح في الصف الثاني عام 1951 وكان أبي قد إئتمن أخي الأكبر على حصتي من الخرجية البسيطة.
وقف التلاميذ في الإصفاف بكل صمت وبعد أن  انتهت التعليمات والشروحات بمناسبة العام الدراسي الجديد نزل في الربع البعيد عني في الساحة طالبان يبيعان طوابع  قيل أن أثمانها  تبرعات لفلسطين .
خطر ببالي أن أتبرع ولكن الفلوس كانت مع أخي ، تركت الإصطفاف ومشيت الهوينا حتى منتصف الساحة تقريبا ولما لم يخرج الي أخي الذي بقي متسمرا في مكانه .. صرخت عليه  بأعلى صوتي  : تعال نشتري من هذا .

كسرت الصرخة صمت  الصفوف وأدهشت  المعلمين المشرفين على الساحة  فهرع الي أحدهم وهو الأستاذ عبد الرحمن وكان ضخم البنية متوسط العمر مدور الوجه غائر العينين وأصلع بعض الشيء  ومسك  بأذني بقوة  وأرجعني الى مكاني مكررا علي في الطريق إليه  بصوت خافت مع كل فركة إذن .. بابة هذي مدرسة مو عكد.......بابة هذي مدرسة مو عكد**.



**العكد بالعامية العراقية تعني : زقاق، دربونة 

No comments:

Post a Comment

صفقة القرن ة وعظمة القصاب

في أوائل القرن الماضي كان حلاق المحلّة يقوم بأعمال الطبيب إضافة الى وظيفته. ذات يوم أصيبت عين قصاب المحلة بجزيئة فُتات عظمة إستقرت ف...