تشغل الدائرة التجارية التابعة للسفارة العراقية في موسكو في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي الطابق الأعلى من بناية منفصلة جوار السفارة لها مدخل داخلي عبر حديقة السفارة وباب منفصل على الشارع المتفرع من شارع بوكودينسكايا .
كان مكتبي في تلك الدائرة يشغل ركن الطابق المطل على حديقة السفارة وكانت هناك أشجار باسقة
تصعد من حديقة السفارة لتغطي بأغصانها جانبي غرفة المكتب وتتجاوز المكتب إرتفاعا
لتغطي سطحه ضمن سطح البناية .
وكان يحلو لي في
الصباح أن أقف عند ركن المكتب المغطى من
كل الجوانب بالأغصان الكثيفة أحتسي القهوة وأتخيل أنني في بيت مشيد على شجرة في الأعالي وأتذكر لعب الأطفال في الغرب في بيوت شيدها لهم أهلهم على الأشجار الكبيرة .
كان كل شيء جميلا
سوى أن جارتي في الأعالي كانت مستوطنة غربان
بقعاء كبيرة موسكوية . كانت الغربان تعقد عند الضحى في بعض الأيام إجتماعا
جماهيريا لها حيث تتقاطر على الأشجار المحيطة بي وكل منها يأخذ مكانه على غصن أو
ذؤابة شجرة وعند إكتمال النصاب كما يبدو يبدأ النعيق والزعيق لساعات وكأنهم في
مناقشة أو جدل حاد .
يروى والعهدة على الراوي أن الغربان تعقد محاكمة لمن
يجرم من بينها ويقول البعض أنهم رأوا ما
يقرب من مائتي غراب في أحد الحقول محيطة بغراب في وسطها ( المتهم ) وهي تنعق وتزعق ويذهب البعض الى أنه
في القانون الجنائي الغرباني هناك عقوبة خاصة لكل جريمة ، فمن هدم عشا عليه أن يعيد بنائه ومن تعرض للأفراخ ينتف ريشه
ليحرم من الطيران مثلها أما من عاشر أنثى غراب آخر فعقوبته الإعدام نقرا حتى الموت
وهناك الكثير ممن شهد على تنفيذ مثل هذه العقوبة .
أما أنا فلا أستطيع أن أروي غير ما رأيته أو أصدق ما ذكره الآخرون لأني لم أستطع أن أميز
القاضي أو المدعي العام أو المتهم من بين
هذا الجمع من الغربان بسبب كثافة الأغصان
وتباين إرتفاعاتها كما لم أشهد تنفيذ أية عقوبة ولكن يبدو أن إجتماع الغربان يحدث لأمر ما .....هل هو بالفعل محاكمة أو جلسة برلمان أو إجتماع حزبي .... لا أدري .
بالإضافة الى الإجتماع الجماهيري الموصوف أعلاه رأيت في بعض الأحيان إثنين من الغربان على الأغصان بصورة
متقابلة في جلسة عتاب أو شجار عال ومرير
يرفع كل منهما في سياقها رأسه الى الأعلى ثم يخفضه الى مابين قدميه ناعقا بحرقة وقد
تستمر الجلسة هذه لساعات أيضا مما حملني أن أطلب من العاملة أن تحضر لي من الحديقة
بعض الحصى لأكسر به الهرج عند الحاجة كما
يقول البدو .
ذات مرة وأنا خارج من الدائرة سالكا طريق حديقة السفارة إخترق طائر أبيض جميل
مستوطنة الغربان وإذا بغراب كبير يهاجمه في الجو ويسقطه أرضا بقربي وينقض عليه نقرا فهرعت إليه وأنقذته من الغراب
ووفرت له الطعام والماء في بلكونة شقتي وعدت اليه لأجده قد طار في سبيل حاله .
رويت قصة الغراب والطير لزملائي في السفارة فقال لي
أحدهم لا تستغرب فقد إنقض علي غراب من هذه الغربان في الممر الخلفي وقد تخلصت منه بصعوبة .
كان محدثي أصلع الرأس حيث كان أعلى رأسه خال من الشعر
تماما أحمر قرمزي يحيط به ويسيجه شعرا
أسود كث .
قلت له : هل كنت تعتمر قبعة آنذاك ؟
قال : لا ، لقد حدث ذلك في الصيف .
قلت : إعذر الغراب فقد تصور أنك تحمل على رأسك شريحة لحم محمرة ، وهربت .... .
وأخيرا وليس آخرا فإن غربان موسكو دخلت سفر الحرب بين
روسيا ونابليون إذ إضطر جنود نابليون الى أكلها عندما تقطعت بهم السبل وحاصرتهم
ثلوج موسكو وأهلها .
No comments:
Post a Comment