Monday, November 6, 2017

أيامي الأولى في موسكو السوفيتية




في الرابعة ظهرا من يوم 25 مايس 1988 حطت الطائرة العراقية في مطار شريميتيفا دفا ، نزلنا منها مجللين بالملابس الثقيلة التي أحضرناها لبلاد الثلج  و ما  أن إجتزنا حاجز الجوازات  حتى تقدم الينا شاب في أواخرالعشرينات/أوائل الثلاثينات من العمر وتسائل : جنابكم المستشار التجاري الجديد في السفارة العراقية في موسكو؟ 
قلت : نعم  
قال : أنا فاروق  الموظف  المحلي في الدائرة التجارية, أهلا وسهلا بكم في موسكو، السيد السفير بعثني  لإستقبالكم.
 بعد أن  إستلمنا الحقائب وقبل أن نبدأ بالحركة قال فاروق : أستاذ أقترح أن تنزعوا المعاطف والقماصل فالجو دافيء في موسكو.
  فتح لنا  أبواب سيارة فولفو زرقاء قال إنها تعود للدائرة التجارية وبعد أن ركبنا انطلق بنا نحو موسكو . 
قال الموظف  قاطعا علي حملقتي في جانبي الطريق : منذ استلمنا برقيتكم بموعد الوصول ونحن نبحث عن السكن الملائم , بحثنا عن الشقق الدبلوماسية فلم نجد والإنتظار للحصول  عليها هنا قد يطول الى سنة أو أكثر ورغم أن هناك صعوبة في الحجز حتى في الفنادق فإنها كما تعرف أستاذ غير ملائمة لسكن العوائل ولكن من معرفتي بموسكو وجدت ان فندق الفولغا  انسب الأماكن لسكنكم ، و استطرد قائلا: في هذا الفندق نوعين من الشقق واحدة بغرفتي نوم وصالة صغيرة ومطبخ  وحمام والأخرى بغرفتي نوم وصالة صغيرة وحمام بدون مطبخ . صدقني استاذ بذلت المستحيل مع مدير الفندق وحملت له الهدايا ولكن النوع الاول كان مشغولا بالكامل وعلى اية حال سنحصل على شقة بمطبخ فور تخليتها من أحد النزلاء وهنا إلتفت إلي تاركا تركيزه  في النظر الى الأمام طوال الطريق لبرهة وقال مبتسما : لقد وعدت المدير نيابة عنكم أستاذ بهدية مجزية.
 قلت : ولكن لاشك أن هناك مطعما مناسبا في الفندق  !!.
قال  : آسف أستاذ لا ، رغم ان اسمه فندق ولكن في واقع الحال هو عبارة عن شقق .. يوجد هناك دكان صغير في الفندق وقبل ان أقول وماذا نفعل بالدكان  ؟ أردف الموظف على أية حال سأتدبر الأمر.
إقتربنا من جسر كان في مقدمته  تمثال لجمهرة من المقاتلين تتقدمهم امرأة تمسك ببندقيه في نهاية يدها و ذراعها ممتدة في وضع تحدي. قال الموظف مشيرا الى الشارع الواقع أمامنا عبر الجسر انه شارع غوركي .. الاديب مكسيم غوركي .. ان هذا الشارع يقود الى الساحة الحمراء..
 بعد هذا الحديث بدقائق قليلة وجدنا أنفسنا أمام فندق الفولغا .
  أنزلنا أثقالنا  أمام بناية مؤلفة  من أجنحة  بستة طوابق وأحد عشر طابقا اختار الموظف  أكبر الحقائب وتقاسمنا الباقي حسب الأحجام ,  دخلنا المبنى , إستقبلتنا سيدة  في أواسط عمرها  بشوشة تحدثت الى  الموظف  وأخذتنا الى الطابق الثاني وفتحت لنا باب الشقة وأرتنا مافيها وانصرفت.
    قال فاروق : تعال أستاذ لنذهب الى البرودوكتي (محل بيع الأغذية) و البولوتشنايا (محل بيع الخبز) لنشتري ما يلزم.
  دخلت البرودكتي معه ، وجدته يشبه أسواق التبضع  في البلدان الاخرى (السوبر ماركت) تجولت فيه بين حافظات الطعام الزجاجية و الرفوف وكان مليئا بأنواع الأجبان المغلفة  و غير المغلفة الصغيرة و الكبيرة و كانت هناك علب كارتونية طويلة من الحليب و اللبن وبعض اللحوم و الخضروات و الخيار. شرع فاروق  يملأ العربة بالأجبان و اللبن و الخيار بدون اكتراث, استغربت بعض الشئ و سألته عما سيكلفه كل هذا , قال: (فلاسين)، ان المأكولات رخيصة هنا جدا . بعدها ذهبنا الى البولوتشنايا وملأ كيسا كبيرا بأنواع الخبز الأبيض والأسمر المستطيل و المدور و عدنا بمشترياتنا الى الفندق.
أراني الموظف الدكان الصغير الموجود في الطابق الأرضي من الفندق وتبين أنه يحتوي على بعض المعلبات وطلبت منه أن يستفسر عن المطعم , قالت له السيدة ان بإمكانهم الذهاب الى المطعم  في فندق آخر قريب ويذكروا لهم انهم يقيمون في الفولغا وسيساعدوهم في الدخول.

  دخلت الشقة ووضعت المشتريات على الطاولة فأحاطت بها العائلة وجلسنا الى أطايب الجبن واللبن وأصناف الخبز و بعدها جاءت الحاجة الى الشاي ملحة لاتقاوم.

 نزلت الى السيدة وقلت: تي.. وحركت سبابتي دائريا فوق راحة  كفي اليسرى لأقلد حركة الملعقة في استكان الشاي والسيدة تراقب بإهتمام وما أن كورت يدي وتصنعت إرتشاف ماخلطته بالملعقة حتى صاحت السيدة: آه تشاي.. تشاي، تفاجئت ورحت اردد تشاي.. تشاي ودار في خلدي.. لابد وأنها تعلمت الكلمة من نزلاء عراقيين سبقونا ليتبين فيما بعد ان الشاي بالعربية والروسية واحد.

 جاءت السيدة بعد حين بطنجرة  فيها سائل  يميل الى الصفار أكثر منه الى السواد و حافظة سكر وبعض الأكواب مع بسكت قديم مستدير. لابد انه هو.. الشاي . سكبناه في الأكواب وشربناه و كان له طعم ورائحة غير مألوفة و لا شك ان ما قدمته المرأة هو ما كانت تعمله لنفسها و تتناوله اثناء ساعات الواجب.
  نادت ابنتي الصغيرة من الحمام: بابا.. الماء بارد .  وجدت الحنفية ذات الدائرة الحمراء مفتوحة ، وضعت يدي تحت الماء المنسكب بإنتظار أن تتغير حرارته وعندما لم يحدث ذلك قفلت الحنفية وفتحت الأخرى  ذات الدائرة الزرقاء ، لعل الروس قد أخطأوا في العلامات ؟ ولما استمر الماء المنسكب منها باردا قفلت الإثنين وهرعت الى السيدة في الأسفل.
 قلت لها بالإنكليزية نو هوت ووتر .
 نو خوت فوتر... نو خوت فوتر ... رددت السيدة بعدي ثم باشرت بشرح لم أفهم منه شيئا فعدت أدراجي وقلت للجميع لا يوجد هناك ماء حار.  
  في الصباح سألت فاروق عن موضوع الماء فقال ان الماء الحار يجهز مركزيا و ان هناك فترة صيانة أمدها اسبوعان لكل منطقة يقطع فيها الماء الحار و الدور الآن كما هو واضح على منطقة الفندق.
    و ماذا يعمل السكان في مثل هذه الحالة ؟ سألت فاروق .
ـ يزورون اصدقائهم متأبطين منشفة ومخفين صابونة في راحة اليد. أجاب  مبتسما.
 و ماذا نعمل نحن ؟
ـ ان أردت أستاذ لنشتري طباخا كهربائيا صغيرا بقرص واحد و قوري لعمل الشاي وسطل كبير و دفاءة ماء طويلة لتسخين الماء.
 قمنا بشراء ما نصح به الموظف وكان هو الحل المناسب والوحيد للتغلب على معضلتي الشاي و الماء الحار.
 بعد ثلاثة ايام من الإقتتات على الجبن و اللبن و الخيار و الخبز من البرودكتي  القريب و البولوتشنايا  بدأ السأم يدب في نفوسنا من هذه النعمة و بدأ الشوق الى شئ من اللحم يشتد شيئا فشيئا و مشاعر العداء للجبن و الخيار تبدو واضحة على قسمات وجوه العيال.
 شرحت لفاروق  الموقف خصوصا و أننا لا نعرف اللغة و لاتوجد مطاعم أو مقاهي في الحي مثلما يتوقعة المرء في باقي البلدان . تفهم الوضع وقال : سنشتري سفري بعد عودتنا من الدوام.
 في طريق العودة ذهبنا الى مطعم باكو  وهو مطعم أذربيجاني يقع في شارع غوركي آنذاك والذي أصبح يسمى تفرسكوي بعد التغيير  كان بابه موصدا يدقه الزبون الجائع  ليفتحه البواب بقدر لا يسمح للفرد بالمرور ليقول للطارق : مستا نيتو أي لا يوجد مكان .
 قال له فاروق :  نحن من السفارة العراقية ودس  بيده بعض الروبلات فرفع رأس سلسلة الباب من موقعها وفتح الباب  مرددا بجالستا.. بجالستا  أي تفضلوا ... تفضلوا وما ان دخلنا عاد رأس السلسلة الى مكانه وعادت الباب الى وضعها السابق واستأنف البواب زجر الزبائن.
التقانا نادل آخر: بجالستا.. بجالستا  وأشار بيده الى السلم للصعود الى المطعم. أوضح فاروق  ان لا حاجة بنا الى الصعود و طلب ان يهيئوا لنا كمية كبيرة من المشويات سفري.
جئت بالصيد الثمين الى الفندق وصعدت السلم مهرولا, فتحت الباب واتجهت مباشرة صوب الطاولة ، أخرجت السفري من الكيس ونشرته عليها . فاحت رائحة الشواء والتوابل الأذربيجانية وملأت الشقة فأطبق الصغارعليها بنهم شديد و استمرت عمليات نزع اللحم عن الضلوع وتذوق قطع اللحم والكباب و عضود الثوم المخلل حتى شبعت العين وامتلأت المعدة وتثاقلت الحركة.
بعد معرفة طريق اللحم و توفر إمكانية عمل الشاي وبوجود البرودوكتي والبوليتشنايا  إستقرت بنا الأوضاع بعض الشئ و بدأنا بعمليات استطلاع للمدينة .

No comments:

Post a Comment

صفقة القرن ة وعظمة القصاب

في أوائل القرن الماضي كان حلاق المحلّة يقوم بأعمال الطبيب إضافة الى وظيفته. ذات يوم أصيبت عين قصاب المحلة بجزيئة فُتات عظمة إستقرت ف...