Sunday, November 19, 2017

جبران ونواطير التمر



يشكل  يوم حصاد التمور (الكصاص ) بالنسبة لصاحب البستان في العراق  في خمسينات القرن الماضي يوما منتظراً  من أيام السنة فهو يمثل ايراده النقدي الأساسي من البستان من تمر الزهدي .

قبل يوم من الكصاص يبلغ صاحب البستان الكاصوص إن لم يتوفر في العائلة من يقوم بهذه المهمة وهو عادة أحد الشبان الرشيقين في المنطقة (خفة الوزن للوقوف على سعف النخلة مطلوبة ) وينشر الخبر في المنطقة ليكون لدى الشابات الراغبات بجمع المحصول علما  للحضور للغرض المذكور في البستان ويطلق على هؤلاء الشابات بالطواشات.  يقوم صاحب البستان بتوفير  مفرش من المشمع (يستعار من الجيران إن لم يتوفر)  وكذلك "سابل" وهو وعاء منسوج من خوص النخيل ويكون بطول متر وربع تقريبا وارتفاع نصف متر يوضع عل ظهر الحمار فينقسم الى ما يشبه حافظتين واحدة على كل جانب منه لينقل المحصول الى بيدر التمر ويسمى الحضيرة

تبدأ العملية بالبسملة من قبل  الكاصوص وهو يقص أول عثق ويرمي به الى الاسفل على المفرش وتبدأ الطواشات بجمع التمر المتناثر خارج المفرش وهن يرددن الأغاني والردات الشعبية ويوضع التمر في السابل  ومن ثم يبدأ الحمار رحلاته المكوكية بين مسرح العمليات  والحضيرة .

لا يتقاضى الكاصوص والطواشات أجورهم نقدا بل يتقاضونها عينا بالتمر فللطواشة زنبيل من التمر وللكاصوص شكبان من التمر (سعة عباءة (بشت)) ليعودوا الى بيوتهم في المساء محملين بأجورهم .

قد يستغرق الكصاص عدة أيام حيث يستمر جمع المحصول في الحضيرة  وقد تتعرض الحضيرة في الليل الى السرقة وعلى صاحب البستان أن يؤمن حراسة غالبا غير مسلحة للحضيرة إذ عادة ما يستطلع السراق الوضع فإن وجدوها غير محروسة قدّموا جمالهم أو حميرهم للتحميل فهم يسرقون خلسة لا عنوة بإستخدام القوة .

تطوعت ذات يوم لحراسة الحضيرة وعند الخروج للواجب إصطحبت قصة  الأجنحة المتكسرة لجبران خليل جبران علّي أقرأ شيئا منها قبل غروب الشمس وحلول الظلام .
قال أبي : خذ معك سكيّن تكريب النخل هذه لأن فيها الكثير من الحديد .
قلت مستغرباً : ولماذا ؟
قال : يقال أن الجن يخاف الحديد وأنه قد يخرج في ظلام البساتين الدامس وأن تعرف أن بستان عباس القريبة من الحضيرة يدّعي البعض أنها مسكونة (بالجن).
قلت ضاحكاً : معي جبران والجن يسمع إليه ثم ساورني بعض الوجل فأخذت السكين مخافة أن أقضي الليل في حفلة راقصة صاخبة مع جنّيات البساتين .

جاء جارنا مبدر ليحرس حضيرته التي وضعها بجانب حضيرتنا عند العشاء وقد أرخى الليل سدوله فأوقدنا ناراً بسيطة للتسلية وبعض الإضاءة وجلسنا نتبادل أطراف الحديث . طلبت من مبدر أن يغني لانه يتمتع بصوت عذب طالما سمعته يغني عند عمله في البستان وبعد عدة طلعات من  الأبوذية والنايل والعتابة تعب مبدر ولا زال الليل في أوله .
إنتبه مبدر الى وجود القصة معي وكان هو أمّياً لا يقرأ ويكتب فسأل : ما هذه؟ قلت : قصة لكاتب من المهجر
قال : الله يخلّيك إقرئها لنا  .
قلت : يا أبا نجم ، قصص جبران ليست مثل سوالفنا .. أحب الفتاة وأحبته فطلب يدها فنهاهُ إبن عمّها وبعد كثير من البكاء والنجوى والمناحة والوساطة الفاشلة يضطر الى خطفها (نهبها بالعامية ) وبعد جولات من التهديد والوعيد بين عشيرته وعشيرة أبيها وإبن عمّها يجلس الطرفان في كعدة (جلسة ) عشائر ويقبل الفصل بأخته لإبن عمها وصافي يالبن .
قصص جبران يا أبا نجم مشاعر متوهجة وجبال ووديان سحيقة وموسيقى غابات صنوبر فما لك  ولها خذ منامك عند تمراتك  وسآخذ منامي هنا حتى لا نسرق ويضحك علينا القوم غداً . وعلى أية حال لا أستطيع القراءة في هذا الضوء الباهت.
  
إنتفض مبدر وغادر المكان ففكرت أنه قد زعل وبعد بضع دقائق عاد يسحل بحزمة كبيرة من سعف النخل اليابس ووضعها الى جانب نارنا الخافتة وراح يكسر السعف ويرميه على النار فصعد اللهب وتوهج وأضاء .
قال : بروح جدك خذ الكتاب وإقرأ .
بدأت : الأجنحة المتكسرة .. صاح مبدر ألله .. ألله .. ياويلي  

واستمر مبدر يكسر السعف و يديم النار ويصيح الله الله بين الحين والآخر كلما أثّر فيه جمال عبارة أو حسن إلقاء ورحت أتهجد في سكون الليل بحسرات جبران  على جمال وذوبان سلمى كرامة  في ثرى غابة الصنوبر ...  ههنا دفنت آمال ذلك الفتى الذي نفته صروف الدهر الى ما وراء البحار .............


Friday, November 17, 2017

إنتصرنا والعهدة على الراوي







يقول الحكواتي والقصخون عند  العرب منذ قرون والعهدة على الراوي واليوم وبعد أن  إرتفع علم العراق  عاليا في راوة  يحق للراوي الحقيقي بشحمه ودمه أن يروي أمد الدهر أنه هناك في بلدته راوة كانت نهاية الوحوش الدواعش وكان مسك الختام  لزحف مظفر من قبل أبطال العراق من جيش ومكافحة إرهاب وشرطة إتحادية وحشد شعبي وعشائري وبيشمركة ، بدأ من جرف الصخر و أسوار بغداد الحبيبة  مرورا بالرمادي والفلوجة وتكريت والمنازلة الكبرى في الموصل وباقي حواضر العراق .

وعلى العراقيين أن يطلبوا الرحمة للشهداء وأن يعتنوا بأهليهم ويدعوا للجرحى بالشفاء وأن يشملوهم وعوائلهم  بالرعاية فهؤلاء هم أصحاب الفضل في دحر هذا الطاغوت .

وعلى العراقيين أيضا  أن يشهدوا أن من غير إتجاه أجواء المعارك من الإنكسار والهزيمة الى الإقدام والنصر هو السيد السيستاني وأن من نجح في تحشيد الجهد العسكري لجميع العراقيين الأبطال ونجح في تحشيد الجهد الدولي في خدمة المعركة  هو السيد حيدر العبادي وحكومته وقيادته المشتركة وقادته في الميدان

إن ماخرجنا به اليوم يتمثل بقوات مسلحة قوية متآلفة لا ينبغي التفريط بأي منها بل ينبغي تطويرها ورعاية مهنيتها في الإختصاصات المحددة لها فلا أمان للعراقيين في هذه الدنيا بعد هذه التضحيات والدمار غير قواتهم المسلحة .

ما خرجنا به أيضا هو أن لدينا قوات مسلحة تضع أمان المواطن وسلامته فوق كل إعتبار وشعب رأى زيف التعصب الديني والطائفي والعرقي عندما دارت عليه الدوائر ولم يكن له من عاصم إلا أبناء العراق بكل أديانهم وطوائفهم وأعراقهم .

آن الأوان أن نثق بأنفسنا ونعتز برجالنا نقول لهم أحسنتم إن أجادوا وإفسحوا المجال لغيركم إن فشلوا ونشكر من عاوننا بدون عقد أو ترسبات أو ضغائن فالميدان هو الشاهد ومصلحة الشعب العراقي فوق كل شيء.

وفق الله شعب العراق في إعادة بناء  الإنسان ونشر المحبة والوئام في الداخل والخارج وتضميد الجراح وإعمار ما هدمه المجرمون .

Tuesday, November 14, 2017

ثعبان بستاننا







 لطلما حضي الثعبان بقسط وافر من أساطير الأولين ونسبت للأفاعي الكثير من الصفات والمميزات في الطب والسحر والغيبيات  كأن يستعيد الأطرش سمعه إن لعقت أذنه حية ، إلى أبعد من ذلك في أساطير المصريين والسومريون والهنود والصينييون  فعند الصينييون  مثلا  أن الحية  (نيووا ) ذات رأس الإمرأة تخلق تمثال لبشر من الطين وتتسلى عندما ترى الحياة تدب فيه لتذهب وتصنع غيره . وفي القصة الإنجيلية "سقوط الإنسان " أن حية غررت بآدم وحواء ليأكلا الثمرة الممنوعة (التفاحة ) ويخرجا من الجنة .

وقدر تعلق الأمر بقرية البكرلي قرب الحلة في محافظة بابل في أواخر الأربعينات أوائل الخمسينات من القرن الماضي فإن هناك أسطورة الثعبان الذي يحرس البستان  ويطلقون عليه العربيد حيث يقولون أن بعض البساتين يتواجد فيها عربيد  أسود ضخم يتولى حراستها .

تواترت الأحاديث عند أهل القرية  عن وجود مثل هذا الثعبان في بستاننا حيث أكد الكثير من الشهود أنهم شاهدوه يجوب الأدغال ويتوقف بعض الأحيان ليرفع رأسه ويطمأن على سلامة أوضاع حدود البستان  ثم يعود ويختفي  بين أحراشها .

في الثلث الأخير من البستان وعلى ضفة ساقية البساتين كانت هناك شجرة مشمش شامخة بوضع عمودي وشجرة تين تصعد مع شجرة المشمش الى إرتفاع قامة  ومن ثم تنمو أفقيا بكامل جذعها حتى تصل  الممشى المحاذي للساقية والذي يسلكه أصحاب البساتين الأبعد في طريق عودتهم الى القرية عند الغروب وثمة شجرة عنب تلتف على الشجرتين ونخلة تبعث بأطرافها عبر الممشى إليهما لتكمل الظل على فسحة أرض بحجم غرفة إتخذنا منها 
مكاناً لقيلولتنا عند الظهيرة  و يأتنيا مايتيسر من الطعام من البيت لنأكل ونسترخي و نغفو في بعض الأحيان تحت هذا الظل السميك وقد يأتينا أبي ليشاركنا القيلولة في كثير من الأوقات  . ولم نكن نشعر بأي خوف حتى لو كنا لوحدنا من الثعبان فهو بالتأكيد سوف لا يتجاوز مهمته في حراسة البستان ومن فيها حسب إعتقادنا .

كانت آخر البساتين الموجودة عند نهاية الساقية لرجل طاعن في السن يعود للقرية كل يوم مع بداية غروب الشمس عبر الممشى الموازي للساقية وكانت عودته مسموعة من مسافة بعيدة حيث تتخللها الكحة وإفراغ الحنجرة لوازع صحي أو لإخافة الحيوانات المفترسة التي يدعي البعض بوجودها و التي قد تخرج بحثاً عن رزقها في مثل هذا الوقت أو لتنبيه الجن بأن يخرج من تحت قش الطريق حتى لا يدوس عليه الرجل ويتورط حيث أن الأسطورة الأخرى عند القرويين تقول إن من يدوس عل جني قابع تحت ليفة نخل أو قشة عند الغروب  يتلبسه الجني وسيحتاج أن يربط عند ضريح  الإمام عمران إبن على عليه السلام قرب آثار بابل  لعدة ليالي حتى يطرد الجن من جسده أو يذهب الى ساحر متخصص بطرد الأرواح الشريرة بكلفة باهضة  وضرب مبرح بالخيزرانة .

وصل الرجل الشيخ عند مكان قيلولتنا مع  إختفاء آخر ضياء حيثت ضعفت الرؤيا فرأى أن ثمة طوقاً أسوداً على جذع شجرة التين الممتد أفقيا فوق مكان القيلولة فقال في نفسه : آه لقد نسي جاري أبو فلان عقاله ومد يده ليمسك بوسط العقال وإذا بالعقال يتفاجأ  بمسكته وينفلت مذعورا بقوة وإذا به من مفاجئة الملمس وإنتفاضة العقال يطفر مذعورا ويسقط بعيدا على الأرض ثم يستجمع قواه وينهض مهرولا نحو القرية وهو يصيح العربيد ... العربيد .....  إلحقو لي  قبل أن يلدغني  ... الحقوا لي .....


Saturday, November 11, 2017

على خدمة جلالتها

 


On Her Majesty's Service O.H.M.S

في أوائل السبعينات كنت أعمل مساعد بحوث لشركة Mercantile Leasing التابعة لشركة  Mercantile Credit  ثاني أكبر البيوتات المالية في لندن آنذاك وكان عمل الشركة تمويل تأجيري حيث تقوم بناءاً على إتفاق مسبق مع الزبون بشراء مايريده من معدات ثقيلة وخطوط إنتاج ومعامل وطائرات بإسمها  ومن ثم إيجارها له  بأقساط شهرية حيث تستفيد الشركة من نسبة الإندثار العالية التي قد تصل الى 100 بالمائة كغطاء للضرائب العالية على أرباح الشركة الأم من فعالياتها التمويلية الأخرى ويستفيد الزبون بقدر من هذا الحافز بصيغة أقساط إيجار متهاودة

كان عملي هو تحديد الأقساط الشهرية المطلوبة بواسطة الكومبيوتر وكانت الكومبيوتر (الحاسوب ) في ذلك الزمان  تشغل طابق مبرد كامل يجلس عند باب قاعتها المشغل الذي يستلم الطلبات على خدماتها وبالنسبة لي كنت أقدم له إستمارة فيها المبالغ والإندثار والضريبة والمدة وغيرها ليسلمني فيما بعد جدول الإيجارات لها  . وكان عملي الآخر هو تحليل عروض المنافسة المقدمة للزبائن من شركات التمويل الأخرى وبيان الرأي فيها ومقاربات التحرك على منافستها .

إرتأى البنك المركزي ( The Bank of England ) أن يجري تبادل معلومات بين موظفيه الشباب وموظفي البيوتات المالية في لندن لأغراض تطوير الكوادر فوجه دعوة الى الشركة التي أعمل فيها لإرسال موظف منها الى البنك لهذا الغرض و كانت دهشتي كبيرة  عندما وقع علي الخيار وكلفت بالذهاب الى البنك .

لبست قاط رجال المصارف الأسود المخطط بالأبيض الناعم  وذهبت الى البنك المركزي . 
كان في إستقبالي عند الإستعلامات شابان ظريفان بيتر وأندرو حيث أخذاني الى غرفة إجتماعات فيها عدد من موظفي البنك وبعد التقديم قمت بشرح أعمال شركتي والشركة الأم في مجال التمويل بعدها جرى نقاش وأسئلة وأجوبة حول التمويل وفعاليات البنك المركزي بهذا الصدد . بعد إستراحة قصيرة أخذني الشابان في جولة  حول  أقسام البنك  المختلفة حتى حلت الظهيرة .
قال لي بيتر هل  لك أن تأتي معنا لتناول بعض الطعام خارج البنك ؟
بعد التفكير برهة بما في جيبي من نقود توصلت الى أنها تكفي لثلاثة سندويجات (شطائر ) فأجبت : نعم هيا بنا .

أخذني الإثنان الى مطعم عريق يبدو أنه كان موجودا من أيام تشارلز ديكنز قرب ثردنيدل ستريت وبعد أن جلسنا بدأ الشابان بطلب أطايب الأكل التقليدي مع الواين المعتق والويسكي الإسكتلندي الفاخر ..
استوقفت النادل وقلت لهم : مهلا ياشباب نحن لا نحتاج لكل هذا ربما سندويجات وشيئا من الجعة إن أردتم .

ضحك ديفيد وقال :
لا تقلق عبدالهادي كل  شيء على  خدمة جلالتها On Her Majesty's Service
وهذا يعني عند الإنكليز بعبارة أخرى على حساب الحكومة .

تنفست الصعداء وصرفت النادل وقلت مازحاً :  يا شباب  رجاءاً أطلبو كل ما تشتهون .

  

Monday, November 6, 2017

أيامي الأولى في موسكو السوفيتية




في الرابعة ظهرا من يوم 25 مايس 1988 حطت الطائرة العراقية في مطار شريميتيفا دفا ، نزلنا منها مجللين بالملابس الثقيلة التي أحضرناها لبلاد الثلج  و ما  أن إجتزنا حاجز الجوازات  حتى تقدم الينا شاب في أواخرالعشرينات/أوائل الثلاثينات من العمر وتسائل : جنابكم المستشار التجاري الجديد في السفارة العراقية في موسكو؟ 
قلت : نعم  
قال : أنا فاروق  الموظف  المحلي في الدائرة التجارية, أهلا وسهلا بكم في موسكو، السيد السفير بعثني  لإستقبالكم.
 بعد أن  إستلمنا الحقائب وقبل أن نبدأ بالحركة قال فاروق : أستاذ أقترح أن تنزعوا المعاطف والقماصل فالجو دافيء في موسكو.
  فتح لنا  أبواب سيارة فولفو زرقاء قال إنها تعود للدائرة التجارية وبعد أن ركبنا انطلق بنا نحو موسكو . 
قال الموظف  قاطعا علي حملقتي في جانبي الطريق : منذ استلمنا برقيتكم بموعد الوصول ونحن نبحث عن السكن الملائم , بحثنا عن الشقق الدبلوماسية فلم نجد والإنتظار للحصول  عليها هنا قد يطول الى سنة أو أكثر ورغم أن هناك صعوبة في الحجز حتى في الفنادق فإنها كما تعرف أستاذ غير ملائمة لسكن العوائل ولكن من معرفتي بموسكو وجدت ان فندق الفولغا  انسب الأماكن لسكنكم ، و استطرد قائلا: في هذا الفندق نوعين من الشقق واحدة بغرفتي نوم وصالة صغيرة ومطبخ  وحمام والأخرى بغرفتي نوم وصالة صغيرة وحمام بدون مطبخ . صدقني استاذ بذلت المستحيل مع مدير الفندق وحملت له الهدايا ولكن النوع الاول كان مشغولا بالكامل وعلى اية حال سنحصل على شقة بمطبخ فور تخليتها من أحد النزلاء وهنا إلتفت إلي تاركا تركيزه  في النظر الى الأمام طوال الطريق لبرهة وقال مبتسما : لقد وعدت المدير نيابة عنكم أستاذ بهدية مجزية.
 قلت : ولكن لاشك أن هناك مطعما مناسبا في الفندق  !!.
قال  : آسف أستاذ لا ، رغم ان اسمه فندق ولكن في واقع الحال هو عبارة عن شقق .. يوجد هناك دكان صغير في الفندق وقبل ان أقول وماذا نفعل بالدكان  ؟ أردف الموظف على أية حال سأتدبر الأمر.
إقتربنا من جسر كان في مقدمته  تمثال لجمهرة من المقاتلين تتقدمهم امرأة تمسك ببندقيه في نهاية يدها و ذراعها ممتدة في وضع تحدي. قال الموظف مشيرا الى الشارع الواقع أمامنا عبر الجسر انه شارع غوركي .. الاديب مكسيم غوركي .. ان هذا الشارع يقود الى الساحة الحمراء..
 بعد هذا الحديث بدقائق قليلة وجدنا أنفسنا أمام فندق الفولغا .
  أنزلنا أثقالنا  أمام بناية مؤلفة  من أجنحة  بستة طوابق وأحد عشر طابقا اختار الموظف  أكبر الحقائب وتقاسمنا الباقي حسب الأحجام ,  دخلنا المبنى , إستقبلتنا سيدة  في أواسط عمرها  بشوشة تحدثت الى  الموظف  وأخذتنا الى الطابق الثاني وفتحت لنا باب الشقة وأرتنا مافيها وانصرفت.
    قال فاروق : تعال أستاذ لنذهب الى البرودوكتي (محل بيع الأغذية) و البولوتشنايا (محل بيع الخبز) لنشتري ما يلزم.
  دخلت البرودكتي معه ، وجدته يشبه أسواق التبضع  في البلدان الاخرى (السوبر ماركت) تجولت فيه بين حافظات الطعام الزجاجية و الرفوف وكان مليئا بأنواع الأجبان المغلفة  و غير المغلفة الصغيرة و الكبيرة و كانت هناك علب كارتونية طويلة من الحليب و اللبن وبعض اللحوم و الخضروات و الخيار. شرع فاروق  يملأ العربة بالأجبان و اللبن و الخيار بدون اكتراث, استغربت بعض الشئ و سألته عما سيكلفه كل هذا , قال: (فلاسين)، ان المأكولات رخيصة هنا جدا . بعدها ذهبنا الى البولوتشنايا وملأ كيسا كبيرا بأنواع الخبز الأبيض والأسمر المستطيل و المدور و عدنا بمشترياتنا الى الفندق.
أراني الموظف الدكان الصغير الموجود في الطابق الأرضي من الفندق وتبين أنه يحتوي على بعض المعلبات وطلبت منه أن يستفسر عن المطعم , قالت له السيدة ان بإمكانهم الذهاب الى المطعم  في فندق آخر قريب ويذكروا لهم انهم يقيمون في الفولغا وسيساعدوهم في الدخول.

  دخلت الشقة ووضعت المشتريات على الطاولة فأحاطت بها العائلة وجلسنا الى أطايب الجبن واللبن وأصناف الخبز و بعدها جاءت الحاجة الى الشاي ملحة لاتقاوم.

 نزلت الى السيدة وقلت: تي.. وحركت سبابتي دائريا فوق راحة  كفي اليسرى لأقلد حركة الملعقة في استكان الشاي والسيدة تراقب بإهتمام وما أن كورت يدي وتصنعت إرتشاف ماخلطته بالملعقة حتى صاحت السيدة: آه تشاي.. تشاي، تفاجئت ورحت اردد تشاي.. تشاي ودار في خلدي.. لابد وأنها تعلمت الكلمة من نزلاء عراقيين سبقونا ليتبين فيما بعد ان الشاي بالعربية والروسية واحد.

 جاءت السيدة بعد حين بطنجرة  فيها سائل  يميل الى الصفار أكثر منه الى السواد و حافظة سكر وبعض الأكواب مع بسكت قديم مستدير. لابد انه هو.. الشاي . سكبناه في الأكواب وشربناه و كان له طعم ورائحة غير مألوفة و لا شك ان ما قدمته المرأة هو ما كانت تعمله لنفسها و تتناوله اثناء ساعات الواجب.
  نادت ابنتي الصغيرة من الحمام: بابا.. الماء بارد .  وجدت الحنفية ذات الدائرة الحمراء مفتوحة ، وضعت يدي تحت الماء المنسكب بإنتظار أن تتغير حرارته وعندما لم يحدث ذلك قفلت الحنفية وفتحت الأخرى  ذات الدائرة الزرقاء ، لعل الروس قد أخطأوا في العلامات ؟ ولما استمر الماء المنسكب منها باردا قفلت الإثنين وهرعت الى السيدة في الأسفل.
 قلت لها بالإنكليزية نو هوت ووتر .
 نو خوت فوتر... نو خوت فوتر ... رددت السيدة بعدي ثم باشرت بشرح لم أفهم منه شيئا فعدت أدراجي وقلت للجميع لا يوجد هناك ماء حار.  
  في الصباح سألت فاروق عن موضوع الماء فقال ان الماء الحار يجهز مركزيا و ان هناك فترة صيانة أمدها اسبوعان لكل منطقة يقطع فيها الماء الحار و الدور الآن كما هو واضح على منطقة الفندق.
    و ماذا يعمل السكان في مثل هذه الحالة ؟ سألت فاروق .
ـ يزورون اصدقائهم متأبطين منشفة ومخفين صابونة في راحة اليد. أجاب  مبتسما.
 و ماذا نعمل نحن ؟
ـ ان أردت أستاذ لنشتري طباخا كهربائيا صغيرا بقرص واحد و قوري لعمل الشاي وسطل كبير و دفاءة ماء طويلة لتسخين الماء.
 قمنا بشراء ما نصح به الموظف وكان هو الحل المناسب والوحيد للتغلب على معضلتي الشاي و الماء الحار.
 بعد ثلاثة ايام من الإقتتات على الجبن و اللبن و الخيار و الخبز من البرودكتي  القريب و البولوتشنايا  بدأ السأم يدب في نفوسنا من هذه النعمة و بدأ الشوق الى شئ من اللحم يشتد شيئا فشيئا و مشاعر العداء للجبن و الخيار تبدو واضحة على قسمات وجوه العيال.
 شرحت لفاروق  الموقف خصوصا و أننا لا نعرف اللغة و لاتوجد مطاعم أو مقاهي في الحي مثلما يتوقعة المرء في باقي البلدان . تفهم الوضع وقال : سنشتري سفري بعد عودتنا من الدوام.
 في طريق العودة ذهبنا الى مطعم باكو  وهو مطعم أذربيجاني يقع في شارع غوركي آنذاك والذي أصبح يسمى تفرسكوي بعد التغيير  كان بابه موصدا يدقه الزبون الجائع  ليفتحه البواب بقدر لا يسمح للفرد بالمرور ليقول للطارق : مستا نيتو أي لا يوجد مكان .
 قال له فاروق :  نحن من السفارة العراقية ودس  بيده بعض الروبلات فرفع رأس سلسلة الباب من موقعها وفتح الباب  مرددا بجالستا.. بجالستا  أي تفضلوا ... تفضلوا وما ان دخلنا عاد رأس السلسلة الى مكانه وعادت الباب الى وضعها السابق واستأنف البواب زجر الزبائن.
التقانا نادل آخر: بجالستا.. بجالستا  وأشار بيده الى السلم للصعود الى المطعم. أوضح فاروق  ان لا حاجة بنا الى الصعود و طلب ان يهيئوا لنا كمية كبيرة من المشويات سفري.
جئت بالصيد الثمين الى الفندق وصعدت السلم مهرولا, فتحت الباب واتجهت مباشرة صوب الطاولة ، أخرجت السفري من الكيس ونشرته عليها . فاحت رائحة الشواء والتوابل الأذربيجانية وملأت الشقة فأطبق الصغارعليها بنهم شديد و استمرت عمليات نزع اللحم عن الضلوع وتذوق قطع اللحم والكباب و عضود الثوم المخلل حتى شبعت العين وامتلأت المعدة وتثاقلت الحركة.
بعد معرفة طريق اللحم و توفر إمكانية عمل الشاي وبوجود البرودوكتي والبوليتشنايا  إستقرت بنا الأوضاع بعض الشئ و بدأنا بعمليات استطلاع للمدينة .

صفقة القرن ة وعظمة القصاب

في أوائل القرن الماضي كان حلاق المحلّة يقوم بأعمال الطبيب إضافة الى وظيفته. ذات يوم أصيبت عين قصاب المحلة بجزيئة فُتات عظمة إستقرت ف...