يشكل يوم حصاد التمور (الكصاص ) بالنسبة لصاحب
البستان في العراق في خمسينات القرن
الماضي يوما منتظراً من أيام السنة فهو
يمثل ايراده النقدي الأساسي من البستان من تمر الزهدي .
قبل يوم من الكصاص يبلغ صاحب
البستان الكاصوص إن لم يتوفر في العائلة من يقوم بهذه المهمة وهو عادة أحد الشبان
الرشيقين في المنطقة (خفة الوزن للوقوف على سعف النخلة مطلوبة ) وينشر الخبر في
المنطقة ليكون لدى الشابات الراغبات بجمع المحصول علما للحضور للغرض المذكور في البستان
ويطلق على هؤلاء الشابات بالطواشات. يقوم
صاحب البستان بتوفير مفرش من المشمع
(يستعار من الجيران إن لم يتوفر) وكذلك
"سابل" وهو وعاء منسوج من خوص النخيل ويكون بطول متر وربع تقريبا
وارتفاع نصف متر يوضع عل ظهر الحمار فينقسم الى ما يشبه حافظتين واحدة على كل جانب
منه لينقل المحصول الى بيدر التمر ويسمى الحضيرة
تبدأ العملية بالبسملة من قبل الكاصوص وهو يقص أول عثق ويرمي به الى الاسفل
على المفرش وتبدأ الطواشات بجمع التمر المتناثر خارج المفرش وهن يرددن الأغاني
والردات الشعبية ويوضع التمر في السابل ومن
ثم يبدأ الحمار رحلاته المكوكية بين مسرح العمليات والحضيرة .
لا يتقاضى الكاصوص والطواشات أجورهم
نقدا بل يتقاضونها عينا بالتمر فللطواشة زنبيل من التمر وللكاصوص شكبان من التمر
(سعة عباءة (بشت)) ليعودوا الى بيوتهم في المساء محملين بأجورهم .
قد يستغرق الكصاص عدة أيام حيث
يستمر جمع المحصول في الحضيرة وقد تتعرض
الحضيرة في الليل الى السرقة وعلى صاحب البستان أن يؤمن حراسة غالبا غير مسلحة
للحضيرة إذ عادة ما يستطلع السراق الوضع فإن وجدوها غير محروسة قدّموا جمالهم أو
حميرهم للتحميل فهم يسرقون خلسة لا عنوة بإستخدام القوة .
تطوعت ذات يوم لحراسة الحضيرة وعند
الخروج للواجب إصطحبت قصة الأجنحة
المتكسرة لجبران خليل جبران علّي أقرأ شيئا منها قبل غروب الشمس وحلول الظلام .
قال أبي : خذ معك سكيّن تكريب النخل
هذه لأن فيها الكثير من الحديد .
قلت مستغرباً : ولماذا ؟
قال : يقال أن الجن يخاف الحديد
وأنه قد يخرج في ظلام البساتين الدامس وأن تعرف أن بستان عباس القريبة من الحضيرة
يدّعي البعض أنها مسكونة (بالجن).
قلت ضاحكاً : معي جبران والجن يسمع
إليه ثم ساورني بعض الوجل فأخذت السكين مخافة أن أقضي الليل في حفلة راقصة صاخبة
مع جنّيات البساتين .
جاء جارنا مبدر ليحرس حضيرته التي
وضعها بجانب حضيرتنا عند العشاء وقد أرخى الليل سدوله فأوقدنا ناراً بسيطة للتسلية
وبعض الإضاءة وجلسنا نتبادل أطراف الحديث . طلبت من مبدر أن يغني لانه يتمتع بصوت
عذب طالما سمعته يغني عند عمله في البستان وبعد عدة طلعات من الأبوذية والنايل والعتابة تعب مبدر ولا زال
الليل في أوله .
إنتبه مبدر الى وجود القصة معي وكان
هو أمّياً لا يقرأ ويكتب فسأل : ما هذه؟ قلت : قصة لكاتب من المهجر
قال : الله يخلّيك إقرئها لنا .
قلت : يا أبا نجم ، قصص جبران ليست
مثل سوالفنا .. أحب الفتاة وأحبته فطلب يدها فنهاهُ إبن عمّها وبعد كثير من البكاء
والنجوى والمناحة والوساطة الفاشلة يضطر الى خطفها (نهبها بالعامية ) وبعد جولات
من التهديد والوعيد بين عشيرته وعشيرة أبيها وإبن عمّها يجلس الطرفان في كعدة
(جلسة ) عشائر ويقبل الفصل بأخته لإبن عمها وصافي يالبن .
قصص جبران يا أبا نجم مشاعر متوهجة
وجبال ووديان سحيقة وموسيقى غابات صنوبر فما لك ولها خذ منامك عند تمراتك وسآخذ منامي هنا حتى لا نسرق ويضحك علينا القوم
غداً . وعلى أية حال لا أستطيع القراءة في هذا الضوء الباهت.
إنتفض
مبدر وغادر المكان ففكرت أنه قد زعل وبعد بضع دقائق عاد يسحل بحزمة كبيرة من سعف
النخل اليابس ووضعها الى جانب نارنا الخافتة وراح يكسر السعف ويرميه على النار
فصعد اللهب وتوهج وأضاء .
قال : بروح جدك خذ الكتاب وإقرأ .
بدأت : الأجنحة المتكسرة .. صاح
مبدر ألله .. ألله .. ياويلي
واستمر مبدر يكسر السعف و يديم
النار ويصيح الله الله بين الحين والآخر كلما أثّر فيه جمال عبارة أو حسن إلقاء ورحت
أتهجد في سكون الليل بحسرات جبران على جمال
وذوبان سلمى كرامة في ثرى غابة الصنوبر
... ههنا دفنت آمال ذلك الفتى الذي نفته
صروف الدهر الى ما وراء البحار .............
No comments:
Post a Comment