Saturday, January 13, 2018

كاسترو ، تشي جيفارا وكوانتانا ميرا





كنا قد نجحنا في المؤسسة العامة للمعادن في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي في تصدير سماد أحادي فوسفات الأمونيوم (MAP )  المنتج في معمل القائم الى كوبا رغم بعد المسافة وبالمارك الألماني مستفيدين من عزوف الكوبيين عن الشراء من الولايات المتحدة الامريكية القريبة عليهم .
تصادف في ذلك الوقت إنعقاد المؤتمر السنوي لصناعة الأسمدة العالمية في  مدينة مكسيكو  عاصمة المكسيك القريبة من كوبا  والذي يحضره كبار المصدرين والمستوردين للفوسفات عادة وبناءً على رغبة الجانب الكوبي ذهبنا الى كوبا بعد إنتهاء أعمال المؤتمر وكانت تلك هي زيارتي الأولى الى كوبا  .

نزلنا في فندق هافانا ليبيري في العاصمة الكوبية هافانا وكان هذا الفندق إسمه هافانا هيلتون عند إفتتاحه عام 1958  أي قبل سنة واحدة من نجاح الثورة الكوبية في عام 1959 بقيادة فيدل كاسترو وقد تم تأميم  هذا الفندق بعد سنة واحدة أيضا  من نجاح تلك الثورة أي في عام 1960 وتبديل اسمه الى ما ذكرناه .
كان الفندق فارهاً بكل المقاييس إلاّ أن الثوار كما يبدو لم يستبدلو أية قطعة من أثاثه منذ التأميم قبل أكثر من عشرين عاما عملاً بمبدأ أنها لا زالت تفي بالغرض أو لضيق ذات اليد .

 هافاناً كانت متميزة  بسياراتها الأمريكية من موديلات الأربعينات والخمسينات قبل الثورة والتي سُمح لمالكيها الإحتفاظ بها وقد إستطاع هؤلاء المالكين بحكم الضرورة  تصليحها وإدامتها بمهارة فريدة.
 هافانا كانت جميلة أيضاً بفتياتها البيض والسمر والسود ذوات القوام الفارع  الممشوق والتضاريس البارزة  بالشورتات والقمصان البسيطة الملونة المفتوحة  .
  هافانا كانت تعج  بالموسيقى  والطرب  اللاتيني في كل مكان إذ ترى الرقص والغناء والموسيقى في ساحات وحارات المدينة وفي المطاعم تصدح الموسيقى  ويأتيك النادل  و على  راحة كفه الطعام والشراب  بحركات متوافقة مع أنغام الموسيقى  بينما ينهمك الزبائن في إحتساء الرم  (Rum ) الممزوج بالكولا والتمايل مع الموسيقى.  

لم تكن هناك في الشوارع والساحات صوراً للزعيم فيدل كاسترو بل كانت هناك صوراً لتشي جيفارا.  سألنا مرافقنا الكوبي  عن السبب فأوضح أن الناس هنا تعتقد أن نشر صور الأحياء فأل سوء على بقائهم ولذلك ترى صور تشي جيفارا  ولا ترى صور الزعيم القائد كاسترو . عندها إختلسنا النظر الى بعضنا ولسان حالنا يقول ليت أهلنا في العراق يعتقدون بهذا المعتقد المفيد.   

إستقبلنا السفير بحفاوة بالغة في مكتبه في السفارة شأنه شأن سفراء وموظفي سفاراتنا البعيدة عن العراق  القليلة الوفود وجلس يشرح لنا العلاقات العراقية الكوبية واوضاع كوبا الإقتصادية والمعيشية وكان مما قاله : كوبا بلد خيرات ولا يمكن أن يموت فيه أحد من الجوع   واستطرد قائلاً لو رميت عصا يابسة في البرية الكوبية لوجدتها بعد أيام قليلة قد إخضرّت وتحولت الى نبتة.  عندها قلت له : سعادة السفير مما فهمناه من الملحق التجاري ومرافقنا الكوبي بصورة غير مباشرة ان حالة السكن والملبس والمأكل للشعب الكوبي بائسة بخلاف ما بدا لنا ظاهراً على السطح .
إعتدل السفير في جلسته ورفع رأسه وحدّق فينا لبرهة وقال : تعرفون هذا صحيح ولكن لماذا ؟ وأجاب على سؤاله :لأن في كوبا 20 % تعمل و80 % بالمائة تراقب .

في يوم آخر إصطَحَبَنا مسؤولون كوبيّون مع مترجم من أصول عربية في رحلة لبضع ساعات خارج هافانا الى مزرعة حمضيات كبيرة حيث إطلعنا على  أوضاعها وبعدها جلسنا للغداء مع مدير المزرعة وناظرة المزرعة ومسؤول  حزبي كما يبدو  ومسؤول بلباس عسكري  ومرافقينا .
تكلم المسؤول الحزبي فقال : في هذه البقعة من الأرض تحديداً كان القائد فيدل كاسترو يقاتل الأمريكان ورغم إنشغاله بهذا الأمر الجلل فإنه لاحظ نبتة حمضيات قد نمت لوحدها وفور نجاح الثورة أمر بإنشاء هذه المزرعة .
تكلمت الناظرة فقالت أنظروا الي أنا كنت لا أملك شيئاً قبل الثورة واليوم لدي  غرفتي الخاصة في سكن المجمع ولدي ثلاجة وراديو.
من جانبنا بادرنا بمناقشة إستخدام السماد الفوسفاتي في المزرعة وسألنا عن  خدمة المزرعة إذ تبين أنهم يعتمدون  بالدرجة الأساس على عمل طلاب الإعدادية القريبة منها بدون مقابل بالإضافة الى كادرها الأساسي .
طلب الضابط مني بعد ذلك أن أختار الموسيقى قبل الولوج في الأكل والشرب , فهمس المترجم بأذني كونتانا ميرا .
فنفشت ريشي وشكرت الحضور على حسن الضيافة وغزارة المعلومات المقدمة لنا وحييت العاملين في المزرعة واقترحت أن نسمع معاً الأغنية  الوطنية الشعبية  كونتانا ميرا .
 أطلق الحضور صيحات الإستحسان لهذا الخيار وصدحنا جميعاً بحضور بساتين البرتقال  كوانتانا ميرا ... كوانتانا ميرا ... كوانتانا ميرا ....

في أمسية لا تنسى دُعينا للعشاء والسهرة في مطعم في غابة يدعى  تروبيكانا .
كانت الموائد موزعة تحت أشجار الغابة  حول مسرح كبير دائري الشكل يرتفع عند توقيت معلوم بحدود متر .
 بعد أن يتم طلب وإستهلاك العشاء تقريبا تطفأ الأضوية ومن ثم تفتح لترى المسرح قد إرتفع وعليه الفرقة الموسيقية تصدح بأولى نغماتها مع مجموعة كبيرة من الراقصين والراقصات  وترى عند كل مائدة راقصة ترتدي ما يشبه لباس السباحة مزركشاً  بإكسسوارات بشتى الألوان وغطاء رأس من الريش الطويل الزاهي الألوان وهناك راقصات وراقصين  بأزياء مماثلة على البعد تحت كل شجرة منظورة وفوق جسور خشبية تم مدّها بين الاشجار في الأعلى وكل الراقصين يرقصون بإنسجام تام مع الموسيقى المتهادية عبر أرجاء الغابة من المسرح .
بعد إنتهاء هذه الوصلة الغريبة ينسحب الراقصون من مواقعهم ويعود التركيز الى المسرح الذي تبدأ فيه وصلات غنائية وفولكلوية حت منتصف الليل تقريباً ليعتلي  المسرح بعدها الراغبين من الحضور في الرقص حتى مطلع الفجر .
بعد إنتهاء السهرة سألت عن الكلفة فتبين أنها زهيدة جداً وعليه قررت ورفيقي في الإيفاد أن نعيد الكرة في الليلة التالية على حسابنا.

وبعد قرابة عقد ونصف من الزمان عدت في زيارة رسمية الى كوبا وسألت عن تروبيكانيا فقالوا لي أنها لازالت موجودة وبرنامجها بخير ولكنها أصبحت بالدولار وبكلفة عالية جداً وجدتها  لا تتناسب مع مخصصات الإيفاد لأقترح العشاء فيها على وفدنا.  




No comments:

Post a Comment

صفقة القرن ة وعظمة القصاب

في أوائل القرن الماضي كان حلاق المحلّة يقوم بأعمال الطبيب إضافة الى وظيفته. ذات يوم أصيبت عين قصاب المحلة بجزيئة فُتات عظمة إستقرت ف...