Saturday, September 2, 2017

أنا والحصان والعيد





في حوالي منتصف الخمسينات من القرن الماضي  إشترى لي أبي حصانا أحيل على التقاعد من قبل الريسيس (ما كان يطلق على سباق الخيل بالعامية مأخوذ من كلمة Racing  بالإنكليزية آنذاك ) وكان على مايبدو يحن بشرائه هذا الحصان الأصيل  الذي لا حاجة لنا به الى أيام شبابه عندما كان عنصرا  فيما أطلق عليها بالعامية في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي بـ "قوة السيار " أي القوة السيارة وهي عبارة عن قوة من الخيالة  الشباب المدربة تدريبا عنيفا على القتال بالسيف والبندقية من  على ظهور الخيل و كانت هذه القوة قبل إنتشار إستخدام السيارات في الجيش والشرطة تصول من راوندوزو وحتى الفاو  لتثبيت دعائم الدولة العراقية الحديثة ( الرد السريع في الشرطة الإتحادية في يومنا هذا) .

إستقبلت الحصان الأحمر الذي أزاحه قانون الطبيعة ( البقاء للشباب في حلبة السباق ) نحوي بحب وإحترام بالغ  وأخترت له إسما بالإنكليزية لكونه قد أتى من  الريسيس  فأطلقت عليه (Wise) وايز وتعني العاقل بالعربية . كنت آخذ وايز وواجباتي المدرسية معي الى البستان في البكرلي حيث أنبطح على الأرض لأحضر واجباتي بينما ينصرف وايز الى أكل عشب الله بدلا من العلف المقوى والمحسن الذي إعتاد عليه في صدر شبابه .

ذات سنة ، كنت مع أختي الصغيرة نقيم في قطعة أرض لنا في منطقة جبلة شمال الحلة عندما جاء أبي  إلينا على الحصان من الحلة عبر المزارع والقفار سائرا على وتر مثلث ضلعه الأكبر  طريق حلة بغداد وضلعه الأصغر من تقاطع نهر مشروع المسيب مع الطريق المذكور وصولا الى جبلة  أي بطول 30 ـ 40 كيلومتر .
قال لي أبي قبيل العيد بيوم سآخذ أختك وأرجع الى الحلة لقضاء العيد وتبقى أنت والحصان هنا لغاية عودتنا بعد العيد ولديك من المؤن ما يكفي وأنت صرت زلمة وما أخاف عليك .... ثم ذهب .

إستفقت فجر يوم العيد حيث بدأ الظلام ينجلي شيئا فشيئا وأرسلت الشمس من عرشها خلف السهوب والروابي أشعتها الحمراء مبشرة بصعودها نحو كبد السماء.جلبت لوايز بعض الحشيش ووقفت بجانبه أمسح كتفه وأمرر أصابعي بين شعره الذهبي المسترسل فوق رقبته الحمراء الناعمة الملمس .
تذكرت العيد في الحلة ... دبكات الجوبي في إبن الحسن وعمران إبن على  والمراجيح المعلقة على جذوع النخيل في النبي أيوب .. دشاديش الشكري على أجساد الأولاد والدشاديش الحمراء والصفراء والزرقاء على أجساد الصبايا ...
قلت لوايز : آسف منك ومن أبي أنا لا أستطيع قضاء العيد في هذه البيداء .
ثم خطر ببالي ما ذا لو إعترضني أحد الخيالة  في هذه الأرض الواسعة الخالية من البشر  وأخذ حصاني  وأنا لا زلت صغيرا لا أقوى على صراع الرجال ومظهري بلدي بقميص وبنطلون !!!.
 وبعد تفكير وجدت الحلول  : قبل الوصول الى نهر المحاويل سأقول لمن يعترضني أنا من بيت عمران الزنبور شيخ المنطقة وصاحب قلعة فيها وبعد نهر المحاويل وقبل نهر النيل سأقول أنا من بيت أشكح الفيحان شيخ المعامرة  وبعد النيل وقرب الوردية سأنادي ياسادة (قرية السادة على نهر الوردية ) و ياحمير (بفتح الياء  ـ ِعشيرتي على نهر الوردية  ) .
وإذا لم ينفع ذلك معهم  سأتملص من المعركة وأعتمد على حصاني وايز لعله يعيد أمجاده في سباق الريسيس .

إمتطيت الحصان وباشر وايز بالهذب ( وهو الجري قبل العدو السريع بالعراقي ) وانطوت المسافات على رتابة الهذب ونضارة المروج وسرحان الخيال وعبرت نهر المحاويل بأمان وبعد بساتينها جاءت أرض شبه مقفرة ليظهر فجأة على البعد الفارس المجهول الذي خفت منه في البروفا  يجري بإتجاهي وهو ينادي علي ... لم أشأ منه أن يقترب مني ويعرف أني صغير العمر وأعزل ، فناديته بأعلى صوتي أنا من بيت أشكح الفيحان ولكزت وايز بكلتا رجلي  أن هيا إنطلق فأعطى سيقانه الأربعة للريح وأنحنيت بجسمي الصغير فوقه حيث داعبت  وجهي جدايل شعره الطائرة في الريح  في وهج  الإندفاع .
لا أدري إن أراد الرجل مني شرا أو خيرا ولكني لحظته بعد إنطلاقة وايز بفترة قصيرة متسمرا مع فرسه في مكانه لا يتحرك  ولربما كان يتعوذ الشيطان ويبسمل إن تصورني بصغري وقميصي وبنطلوني وشعري الأسود الكثيف المنفوش من فصيلة الجن ملطوش  على ظهر حصان ضخم في القفراء .  

وصلت البيت وكان المسكين وايز يزخ ويتصبب عرقا .. مسك أبي بلجامه وإندهش سائلا  :  ما ذا فعلت بالحصان ....كيف وصلتم ؟
قلت :  بدأنا سيرا  ثم هذبنا ثم عدونا بسرعة البرق من خوفنا ... إعذرني يا أبي  لم أستطع أن أقضي العيد في القفراء  بدون سماع الزغاريد و الطبل والمطبك .

.........................................................................................................................................................
الصور  : الأولى : على هضبة كولمرج على الطريق الى أعالي جبال الهملايا في كشمير الهندية 1979 .
          الثانية    : في ريف بلغراد قرب مطحنة أثرية في النصف الثاني من التسعينات .
          الثالثة    : في إستراحة على الطريق الى أعالي جبال القوقاز 2017 .


No comments:

Post a Comment

صفقة القرن ة وعظمة القصاب

في أوائل القرن الماضي كان حلاق المحلّة يقوم بأعمال الطبيب إضافة الى وظيفته. ذات يوم أصيبت عين قصاب المحلة بجزيئة فُتات عظمة إستقرت ف...