(
عندما تمددت الحرب العراقية الايرانية ( الحرب التي لم ير لها ضرورة معظم العراقيين ) من أيام الى
أسابيع الى شهور ومن ثم الى سنين تبدلت مع الوقت مهمة الجيش الشعبي من حراسة
المنشآت الحيوية الى الذهاب الى جبهات القتال وتحول من التطوع للذهاب الى الجبهة للكوادر الحزبية الى الإجبار وانتقل التكليف الى
المستقلين من موظفي الدولة ومن ثم الى عموم المواطنين وبعد أن كانت مشاركة واحدة
في قواطع الجيش الشعبي تكفي لأغراض تمشية المعاملات أصبحت مشاركتين وحتى ثلاثة
مشاركات لاتكفي ومع تضاؤل عدد غير المشاركين في الجبهات أصبح إصطياد الناس وزجهم في القواطع من أهم مهام الكوادر الحزبية و
أصبحت المطاردات للمواطنين غير الراغبين بالإلتحاق بعذر أو بدون عذر في مواقع السكن ومواقع الوظيفة والعمل رياضة
عقلية وبدنية شاقة لمن تقع عليهم عيون
رجال الحزب .
بعد أن عاد حسن من أول قاطع زج فيه بسلام حيث لم يسفك دمه
ولم يسفك دم أحد وجد أن شركته شركة النفط
الوطنية العراقية قد تم حلها وتم نقله من قسم الإستيراد في الشركة المذكورة التابعة لوزارة النفط الى المؤسسة
العامة للمعادن مديرا للمشتريات المركزية .
تم إقتياده مجددا إلى معسكر التاجي للتدريب
في أحد قواطع الجيش الشعبي الذي سيتحرك الى الجبهة بعد أسبوعين .
كان التدريب يبدأ في الصباح بالهرولة ثم محاضرات تفكيك
السلاح والأمور النظرية ومن ثم المسير ويعاد الكرة في المساء ومن ثم النوم في
قاعات المعسكر .
جاء يوم التخرج من الدورة وكانت من متطلباته أن يسير القاطع عبر مطبات وحفر وموانع وبعدها
يدخل المقاتل مايسمى بتطعيم معركة حيث
يزحف في التراب تحت الأسلاك الشائكة بينما يتولى جنود من الحرس الجمهوري إطلاق
النار بالرصاص الحي على جوانبه وخلفه وأمامه ليخرج بعدها من تحت الأسلاك متربا
حامدا الله على السلامة .
وجد حسن أنه لا يستطيع أن يرافق حركة القاطع عبر المطبات
فخرج من الجسم البشري المتحرك وأخذ يسير بجانب المتحركين بكل هدوء .
لمحه العريف الذي كان يواكب الجمع من الجانب الآخر وبيده العصا ويصرخ بالأفراد لإجتياز الموانع فصاح به : أنت هناك شداتسوي
(تعمل ) انتظم فورا في الصف .
إمتثل حسن للأمر وأول ما وجهته عارضة حديدية لم يفلح
بإجتيازها فوجد نفسه راكبا عليها .
صاح به العريف : إنزل ، إنزل قبل ما أجيك بالخيزرانه
أجاب حسن : عريفي الله يخليك ما أكدر (أستطيع ) ... عريفي الله يخليك نزلني
إستشاط العريف غضبا فجاء ورفعه من العارضة ودفعه جانبا وهو يتأفف ويقول لنفسه من "..... "
أمي ربحنا الحرب .
توقف حسن عند بلوغ الأسلاك الشائكة وكان المقاتلون يتمرغلون في التراب والرصاص يلعلع في جنباتهم . قال
حسن لنفسه حتما أن هذه الأصوات ستمزق لي
طبلة الأذن وراح أتبهذل ثم غيراتجاههه بزاوية 90 درجة وخرج من الصف وسار بسرعة تاركا
المرغلة والرصاص والزعيق .
صاح العريف عليه : إرجع للخط فورا .إرجع ، إرجع
لم يأبه حسن لصراخ
العريف لأنه أدرك أن العريف لا يستطع أن
يترك الرهط المحاط بالحرس الجمهري ويركض
ورائه .
دخل حسن إحدى غرف المعسكر ليختبأ بها حتى تنتهي المعمعة وإذا
به يتفاجأ بوجود آمر القاطع نفسه في القاعة ينفض التراب عن ملابسه العسكرية
الأنيقة. أيقن حسن أن الآمر سيأخذه بيده ويمرغله بالتراب أمام أفراد القاطع لكونه هارب
من تطعيم المعركة وفكر لوهلة في الهروب من
المعسكر بأكمله .
سأله آمر القاطع : ماذا تفعل هنا ؟؟
تلعثم حسن وأجاب : أستاذ أنا لم أدخل تطعيم المعركة لأن
أذني توجعني .
كانت المفاجئة أن الآمر لم يسأل أكثر من ذلك بل ذهب
ليشتكي هو لحسن عما جرى له .
قال الآمر : تعرف آني أدخلوني تحت الأسلاك في التراب
ورشوا الرصاص من حولي لأني آمر قاطع ويجب
أن أدخل تطعيم معركة قبل أفراد القاطع .
تعرف بعد ما
خلصت هذا الجندي الواقف عند نهاية الأسلاك يقول لي عفية .. عفية ... عبالك آني ثارد وياه للعكس ( مثل عراقي للدلالة على عمق العلاقة).
كانت حركة القاطع مقررة فجر اليوم الثاني وعند العصر زار
حسن رئيس دائرته السابق في شركة النفط الوطنية والمتنفذ في الحزب وهو يعرف أن حسن مو وجه بهذلة
حيث كانت لديه وظيفة مرموقة وبيت في لندن تركهما في ظروف معينة عندما وسوس الشيطان
في صدره وعاد الى العراق .
قال لحسن : في
الساعة التاسعة ليلا سأزور القاطع وأجتمع بقادته وأثناء هذا الإجتماع تهرب أنت
وجورج ( مقاتل آخر مو وجه بهذلة شمله الرجل بعطفه ) وتعبرون السياج وعنما يتحرك
القاطع سوف لا يتعطلون على حسابكم وبعدها سأتولى الموضوع لا تديرون بال .
بالفعل وفي تمام التاسعة عبر حسن وجورج سياج معسكر
التاجي وأخذوا تاكسي من الشارع العام عائدين الى بيوتهم .....
أثناء وجود حسن في المعسكر إستلم المؤسسة العامة للمعادن
رئيس مؤسسة جديد فوجد أن لديه مشكلتين الأولى أن إنتاج المنشأة لكبريت المشراق التابعة للمؤسسة قد تكدس بسبب غلق المنافذ التصديرية نتيجة للحرب
والثانية أن إنتاج الشركة العامة للفوسفات بدأ يتكدس لنفس السبب ولقلة الخبرات التصديرية .
وكان رئيس المؤسسة الجديد فطنا إذ طلب أضابير جميع الموظفين وبعد دراستها
خلص إلى أن صاحب الإضبارة المسمى حسن هو من قد يستطيع النهوض بالمهمة حيث
عمل مدير إستيراد في شركة النفط الوطنية كما عمل مساعد بحوث تمويل في ثاني أكبر
البيوتات المالية في لند ن .
تصادف وأن قامت الطائرات الإيرانية بقصف كبريت المشراق
قبل يومين من حركة قاطع حسن في التاجي . إستشاط الوزير غضبا في اليوم التالي ونزل الى المؤسسة العامة للمعادن في الطابق الثالث وجمع
كادر المؤسسة وبحضور رئيسها.
كان المعروف عن الوزير أنه يلجأ الى الفشار والشتائم من
العيار الثقيل عندما يغضب .
قال الوزير للمجتمعين : أولاد كذا وكذا كيف تسمحون للكبريت أن يتكدس هكذا وكيف تسمحون
للطائرات الإيرانية أن تقصف كبريت المشراق ...
إستسمح رئيس المؤسسة الوزير وقال : عفوا سيادة الوزير منع
الطائرات هو ليس بمقدور موظفينا هناك لأنه من مسؤولية القوات المسلحة .
و أما تكدس الكبريت وأود إعلامكم سيادتكم أن الأسمدة
الفوسفاتية بدأت تتكدس أيضا في مصنع القائم فهو بسبب الحرب وبسبب نقص الكادر المتمكن
من التصدير.
رد عليه الوزير : أطلب أي شخص من أي وزارة وسأنقله لك .
أجاب رئيس المؤسسة : لدي شخص يستطيع بالتأكيد المساعدة في تصدير هذه المواد وإسمه حسن ..... ولكن الجيش الشعبي قد أخذه وهو
الآن في معسكر التاجي .
نادى الوزير على مدير مكتبه وأمره أن يكتب فورا الى
القائد العام للجيش الشعبي ويطلب إعفاء
حسن من القاطع وتوجيهه بالعودة الى
المؤسسة العامة للمعادن للحاجة الماسة لخدماته .
في اليوم التالي بعد الهروب من معسكر التاجي ظهر حسن في
المؤسسة العامة للمعادن وأثار حضوره دهشة الموظفين الذين تجمعوا حوله ..
قال له أحدهم من الدائرة الإدارية : كيف أتيت بهذه
السرعة لقد كتبنا على إعفائك من القاطع البارحة عصرا فقط .
تعمد حسن البلاهة ليفهم الموضوع وتصنع أن هناك عمل في
مكتبه ينتظره وإنصرف بسرعة وهناك حكى له
موظفوه قصة قصف الكبريت وفشار الوزير وطلب الإعفاء .
خرج حسن نافشا
ريشه الى الدائرة الإدارية حتى لا يثيرهم الفضول ويكتشفون هروبه وطفره سياج معسكر التاجي وشكرهم
على جهودهم في إعفائه وعند إعرابهم عن
دهشتهم لسرعة الإستجابة من مكتب القائد العام
للجيش الشعبي ، قال لهم : نحن في حالة حرب ياجماعة ومتطلبات المعركة ينفذها
القادة بالهاتف وليس بكتابنا وكتابكم .