المحتويات
المقدمة
موقع القرية وتركيبتها
اسم القرية
بساتين القرية
العربيد الأسود
عمود البيت
العفريت
قطاف التمور
الحيافة و الحكواتي ونباح الكلاب
هلال العيد
الحفلة الكبرى
المقدمة
عندما
يولد المرء في قرية وينمو إدراكه وعقله في اجوائها وبيئتها ويشاء قدره أن يغترب لأكثر من عقد من الزمان
تعرض له ذاكرته في خلواته في مهجره صورا دقيقة لطرقات ودروب واشجار وبيوت القرية ورجالها ونسائها واطفالها وأفرادها الساعين في
تلك الدروب والبساتين طلبا للرزق أو الدرس أواللعب.
وعندما يعود المرء للمنطقة يجد ان معالم الطرقات و البساتين قد اختفت وإختفى الشيوخ الطيبين
وأصبح من الصعب معرفة الأطفال بعد ما كبروا وصلب عودهم وإذا بالصور رفيقة الخلوات
وأوقات الحنين لم يعد لها وجود سوى في الذاكرة
إذ أكلت حركة الحياة المعالم وإستجد على الأرض بشر وشجر وجماد وإبتلع جوفها بشر
وشجر وجماد في لا عودة أبدية الى الماضي ...
ولأجل
استعادة الماضي من الثقب الأسود
للزمان لغرض الذكرى أو السلوى أو إطلاع
الأحفاد لاتنفع البومات الصور وحتى الأفلام لأنها تحبس الإحساس والخيال في جماد
الصورة والفلم وتبقى الكتابة وحدها من تستطيع أن تستعيد الأزمان متكاملة بالمشاعر
والأحاسيس والشكل والحركة .
موقع القرية وتركيبتها
أنشأت قرية البكرلي في أوائل سنوات القرن الماضي
من قبل مجموعة من المزارعين عند مدخل الحلة الشمالي يمين الطريق الرئيسي الذاهب الى بغداد مرورا ببابل القديمة .
شيد المزارعون بيوتهم آنذاك من الطين واللبن بكسر اللام (الطابوق
غير المفخور) وأقاموها ضمن محيط دائرة كاملة باستثناء دربونة صغيرة واحدة بحيث تكون
واجهة الدار على محيط الدائرة وظهرها وجوانبها مشتركة مع جيرانها ويبدو أن هذا
التصميم كان بالغريزة أو بالقصد دفاعيا ويهدف لتوفير أكبر قدر من الأمن لأهالي
القرية وحيواناتهم إذ يعرض أقل قدر ممكن من جدران الدور الى الأحراش المحيطة
بالقرية و يسهل الحراسة على صاحب الدار.
تقع
قرية البكرلي بين ثلاثة سواقي يمثلن شرايين حياتها و يطلق أهل القرية على هذه السواقي أنهارا رقم أن عرض
قاعها بحدود 50 إلى 75 سم فهناك ساقية البازول
عند ظهرالقرية وتأخذ مائها من شط الحلة مباشرة عند مستشفى مرجان حاليا وساقية
النعمانية على الجناح الغربي للقرية وتأخذ مائها من ساقية البازول وساقية كراي
روحه على الجناح الشرقي للقرية وتأخذ مائها من ساقية البازول أيضا .
ينفتح
طريق المحيط الترابي الدائري للقرية على طريق ترابي محاذي لساقية النعمانية بين
بستاني علاوي على اليمين وعبد السبتي على اليسارحتى تقاطعه مع طريق ترابي آخر يسمى جادة العمار على اسم قرية العمار التي ينتهي عندها الطريق والذي
يبدأ من محلة الوردية في الصوب الصغير أي
الجانب الصغير من الحلة ومنها عبر جسر الحلة
القديم ان أريد العبور الى الصوب الكبير .
عند تقاطع ساقية النعمانية والطريق مع الجادة (طريق العمار) تصب
الساقية في حوض كونكريتي صغير على شكل حرف
يو انكليزي كنا نسميه (القالب) ومنه يمتد انبوب حديدي تحت الطريق ليفضي الى حوض
بنفس الشكل وتستأنف الساقية مسيرها بين
بستاني كاظم العاشور على اليمين وكاظم العبود على اليسار .
إذ
أتيت الى القرية عبر الطريق الذي يوصلها بجادة العمار الموصوف أعلاه يواجهك على
حد وعي في الأربعينات بيت صاحب الناهض وبيت عبد السبتي واذا سرت في الدرب الدائري
المحيط بالقرية من غربها يأتيك بيت كاظم العبود (كاظم عبد حسب الجنسية) ثم بيت علاوي ( ويضم ثلاثة أو أربعة أخوة في حينه
) وبيت شمران (ويضم اربعة أخوة في حينه ) وبيت حميمة (أم مبدر ) وبيت أمانة ومع
الاستدارة بيت بريج (وهم ثلاثة أخوة ) وعلى الدربونة بيت عودة وبيت عباس ومن ثم
تستمر الدائرة ببيت خليف وكاظم العاشور وتغلق عند بيت عبد السبتي وبيت صاحب الناهض .
إسم القرية
أخذت
القرية اسمها من لقب مالك المنطقة محمد
أغا البكرلي وكان الرجل ضابطا في الجيش العثماني يعود أصله كما يدل اللقب الى ديار
بكر في تركيا وحسب رواية والدي كانت هذه المنطقة قفراء في اواخر أيام الدولة
العثمانية وبلزمة عباس سليمة كبير أحد أفخاذ عشيرة البوحمير ( البوسليمة ) وكان عباس
سليمة هذا صاحب سيف ورمح يجول في انحائها ويؤمن حمايتها .
كانت
الدولة العثمانية في تلك الايام تكلف حاميتها العسكرية بالحلة بجباية الضريبة على المزروعات
والحيوانات وتسمى بالكودة آنذاك وكان أفراد الحامية يعانون من سوء التغذية
والامدادات وعليه كان الخروج لجباية الكودة فرصة هامة لهم لتحسين تغذيتهم فكانت
الحامية تخرج بكاملها تقريبا وتنزل بضيافة
كبير المنطقة ريثما يتم جمع الكودة وهكذا
جاء دور عباس سليمة حيث نزلت الحامية التركية
بضيافته ولم تذكر الرواية ما إذا كان ساكنا آنذاك في بيت شعر (خيمة )
أوغيره . مرت الأيام بطيئة على عباس وهو يطعم ويسقي أفراد الحامية حتى نضبت مؤنته
والقوم باقين لايبدون رغبة في الحركة . في ليلة شديدة الظلام إنتظر عباس حتى نام الضيوف
الثقلاء فجمع حاجياته وعياله بهدوء بالغ وأخذ ما جمع من الكودة وهرب تاركا الضيوف يغطون في نومهم .
عادت
الحامية الى الثكنة بدون الكودة إذ لم تكن لها الامكانية في التوغل بعيدا عن المدينة آنذاك لمطاردة عباس واستحصالها منه ولحل المشكلة تقدم أحد الضباط (محمد أغا البكرلي ) حسب الرواية ليدفع الضريبة ويسجل المنطقة باسمه .
بساتين
القرية
كانت
بساتين القرية قد أكملت نصابها من النخيل وأشجار الفواكه وأشجار الظل في
الأربعينات وكانت نخيلها مثمرة وفي بواكير شبابها
.
كان
بستاننا على جادة العمار عند تقاطع طريق
القرية وساقية النعمانية مع الجادة متميزا بأنواع النخيل المختلفة ورغم أن
نوع الزهدي كان هو الاكثر في البستان كانت هناك نخلات خستاوي وأشرسي وبربنة وحمراوية
ودكلة وكانت الأخيرة تنضج قبل غيرها في المنطقة .
وحيث أن
انتاج أبي الأول من البنين كان ثلاث بنات فقد سمى ثلاثة نخلات متجاورات في وسط
البستان بأسمائهن (نوفة وسليمة وقسمة )
وذات يوم كانت الأخوات الصغيرات الثلاثة عند نخلاتهن وارتأت أوسطهن (سليمة ) أن تطعم أخواتها من تمر نخلتها فصعدت النخلة وما أن أمسكت يداها بسعفات النخلة
حتى تفاجأت بوجودة أفعى تنتظر هي الاخرى رزقها من العصافير الزائرة للثمر متكورة
تحت عثق النخلة فسقطت سليمة من شدة الهلع متدحرجة
على التراب ولحسن الحظ لم تصب بأذى لأن مسافة السقوط كانت بحدود المترين ونصف .
كانت
هناك شجرة توت ضخمة في بداية البستان قرب الجادة وكان أبي قد شد على جذعها زير ماء
لسقاية السابلة على طريق العمار وكان بعضهم يستريح في ظلها السميك في قيض الصيف .
شق أبي
ساقية موازية لساقية النعمانية تبدأ مع بداية البستان وتنتهي عند نهايتها تقريبا وزرع عليها أشجار مشمش تخللتها شجرة تفاح
وامتزجت معها أشجار التين والأعناب وفي بداية الثلث الأخير من البستان اخترنا
موقعا لقيلوتنا في ظل شجرة مشمش كبيرة تمتد تحتها مباشرة أغصان شجرة تين لتكون سقفا
للمكان مع شجرة العنب التي تسلقت عليها, كنا نربط الأبقار عند النخلة القريبة من المكان ونخلد للراحة بعد
ان نأكل ما تأتي به نوفة من طعام ولبن من
بيتنا في القرية .
بعد
انتهاء القيلولة وانخفاض درجة الحرارة قليلا وتنامي الأفياء ينتشر صغار ابناء
القرية في بساتينهم وتطلق الأبقارمن مرابطها لتكمل رعيها وينشغل الصغار بحش البرسيم لتوفير وجبة العشاء للماشية وجمع الحطب
لأغراض إستخدامه للوقود في البيت وقبل غروب الشمس يجمع الصغار مواشيهم وبضمنها
حمارهم الذي يحمل العشاء للقطيع والوقود للبيت ويعودون سالكين طريقا من خلال
البساتين موازية لساقية النعمانية وساقية كراي روحة . إن التأخر في العودة يعرض
البشر والحيوانات الى هجوم اسراب بعوض الحقول الشرس الذي لاينفع معه الطرد ولا
يريح من لسعاته الحك وقد يؤدي الهجوم لشدته الى هيجان الأبقار وهزيمتها في الحقول
والبساتين طمعا في الخلاص منه.
العربيد الأسود
كان
هناك اعتقادا سائدا أن في بعض البساتين يتواجد ثعبان كبير (عربيد ) يتولى حراسة
البستان ويقول البعض أنه رأى عند المرور في بستاننا عربيدا ضخما أسودا يجول بين
الأدغال ولم نكن نصدق ذلك تماما الا أنه ذات مساء جاء جارنا خليف مرتعدا الى
القرية ليقول لولا لطف الله وشفاعة آل البيت لقتلني عربيد بستان كاظم وكانت القصة
كما يأتي : تعود خليف وهو رجل كبير السن آنذاك أن يعود من بستانه في المساء التي
كانت أبعد بستان عن القرية سالكا الممشى الموازي لساقية النعمانية عبر بستاننا وكان
قدومه مسموعا لمسافاة طويلة إذ أنه كان يتنحنح بصوت عال ويفرغ حنجرته بين حين وآخر
ولربما كان يفعل ذلك بحكم الحاجة الصحية أو حتى يخيف الحيوانات البرية الخارجة أول
الليل طلبا للرزق وينبه الجان الكامن تحت
قش المشى أن يترك مكانه حتى لا يدوس عليه عرضا منعا لعمليات تلبس الجان للبشر
الذي يدوس عليه عند الغروب حسب المعتقدات السائدة آنذاك .
عندما
وصل خليف الى مكان قيلولتنا وكان مستوى الرؤيا قد انخفض بسبب حلول المساء لاحظ أن شيئا أسودا على شكل
دائرة تعلق بغصن التين فوق مكان القيلولة .
قال
في نفسه مسكين كاظم العبود لقد نسي عقاله معلق على التينة ومد يده ليأخذ العقال فارتعد
بدنه لملمس العقال الذي تلعبط بيده بقوة .
سحب يده مذعورا وأطلق صوت هلع مجلجل وطفر بعيدا عن عربيد البستان الذي كان قد تكور
فوق مكان قيلولة أهلها ليقوم بواجب الحراسة كما كان يقول البعض .
عمود
البيت وعماد الحياة
كان
البشر في قرية البكرلي يعيش في واقع الحال حياة لا تختلف كثيرا عن حياة أسلافه
وجيرانه أيام بابل , لا غاز ولا نفط ولا كهرباء ولا ماء صافي ولا شيش تسليح أو سلع
معمرة منزلية وعليه كانت مستلزمات الحياة
تعتمد على ما تقدمه النخلة حيث
تكفلت أن توفر له من جدعها عمود بيته
ودعائم سقفه ومن جريد سعفها صناعة سريره ومن خوصها مستلزمات كثيرة لراحته كالمهفة
والحصيرة والأطباق وأوعية الخزن ومن السعف والكرب وقود ناره . ولقاء كل هذا كان
البشر يعتني بالنخلة سيدة البساتين .
العفريت
وغابات النخيل
في كل
سنة من سنوات عمرها المديد ونموها واندفاعها الأبدي نحو العوالي تترك النخلة أحزمة
من السعف المتيبس الملتصق بجسدها من خلال قاعدة متينة من الكرب اليابس مما يوجب
القيام بإزالة هذه الأحزمة كل بضع سنوات ليتمكن المزارع من خدمة المحصول ابتداءا
من تلقيح الطلع وتركيس العثوق (اجلاسها على أحزمة السعف الطرية ) وجني التمر من
هذه العثوق يدويا قبل جفافها لبعض أنواع التمور التي يطيب أكلها خلال فترة النضوج
ولتسهيل قص العثوق بعد الجفاف كما في أنواع التمر الزهدي الذي يشكل معظم التمر الذي
يسوق للمدينة في نهاية الموسم.
إن
إزالة الكرب والسعف المتيبس ليس بالعملية السهلة على المزارع خصوصا اذا كانت لجميع
البستان رغم توفر أدواتها لدى جميع المزارعين وهي (التبلية ) المؤلفة من نسيج من
ليف النخل يحاط به ظهر المتسلق ويرتبط بهذا النسيج من خلال عروتين متينتين حبل
حديد مرن يحيط بجذع النخلة وسكينة تكريب ذات مقبض وساق طويلة تنتهي بمنحنى تكون
نهايته على شكل لسان حاد وعادة ما يتم
التكريب للمتمرس بثلاث حركات الأولى سحب السكينة على جسم الكربة ولسان السكينة الى
الاعلى وداخل المنحنى يحيط بالكربة والثانية سحب السكينة ولسانها بإتجاه الأسفل من
حيث بدأت وانتهت الحركة الأولى وبهذا يقتطع شكل بلوري من جسم الكربة والثالثة بسحب
السكين بخط مستقيم على خط اتصال الجز ء
الاعلى بالجزء الاسفل من الكربة وبهذا تسقط السعفة والجزء الأعلى من الكربة تاركة
قاعدة صالحة من الكربة لموقع قدم من يتسلق بالمستقبل .
ولصعوبة
عملية التكريب كان المزارعون يتفقون مع شخص متوسط العمر فارع القامة قوي البنية
لتكريب كل بستان لقاء عدد قليل من الدراهم وكان هذا من سكنة مركز الحلة يأتي
البستان على حمار أسود ومعه عدته وفطوره وما أن يباشر عملية التكريب حتى
يتناهى الى السامع عن بعد صوت عمليات سحب السكين الثلاثة وانفصال السعفة وكربتها عن جسد النخلة بتتابع منتظم
وبسرعة عالية مخيفة مع بزوغ الفجر وكأن ماردا قد انقض بأسنانه الحادة على أعالي
نخيل المنطقة وعندما يسأل المارة في جادة
العمار أحدا من مزارعي القرية عما سمعوه فجر مرورهم بالمنطقة يقال لهم لا شك إنه العفريت يكرب في أحد البساتين .
لطالما
أبهر الرجل رجال القرية بقوته مما حداهم أن ينعتوه بالعفريت وغالبا ما يتسائلون عن
سر قوة الرجل ويدعي الراسخون في العلم منهم أن العفريت يشرب ربعية عرق قبل أن
يباشر صعود النخيل ناسين أن على المسكين أن يتوازن أثناء عمله في الأعالي .
قطاف
التمور
يبدأ
دخول التمر في قائمة غذاء صغار وشباب أهل القرية مع إصفرار تمور الزهدي الذي يشكل
غالبية نخل البلاد في بداية تموز تقريبا ولكن التمرة وتسمى "خلالة " في هذه
المرحلة تكون قوية بعض الشيء على السن وخشنة المذاق وعالية الحلاوة ومن الصعب أن
يأكل الفرد كفايته منها وعليه يعمد الصبية الى فرشها فوق رمل أوتراب ناعم (ان لم
تتوفر صينية فافون) ورش بعض حبات الرمل عليها وتركها تحت شمس الظهيرة وعندما يتم جمعها
بعد الظهر يكون قد تغير لونها الى جوزي ولان داخلها وقلت حلاوتها وطاب أكلها ويطلق
على التمر المطبوخ بهذه الطريقة تحت أشعة الشمس بالمشمس (بفتح الشين وتشديد الميم).
بعد
مرور أيام على إصفرار التمر الزهدي في عثق النخلة يبدأ جزء من الثمرة بالتحول الى
اللون الداكن والليونة ويطيب أكله ويطلق عليه بالمنجد (بتشديد الجيم ).
ينتشر
في بساتين القرية بعد نخيل الزهدي نخيل الخستاوي وثمة ميزات خاصة لهذا التمر إذ
أنه طيب المذاق في مرحلة المنجد بتشديد الجيم المذكورة أعلاه ولكن على المزارع
التأكد من أن أكثر من ثلث ثمرات العثق دخلت مرحلة الرواج وبخلافه فان قطع الثمر قبل ذلك يشعر جميع
العثوق بأن إعتداءا قد حصل ويجف الثمر بشكل غريب ويصبح غير صالح للأكل في هذه
المرحلة ولاحقاتها ولا يعرف كيف تستشعر النخلة بالقطف قبل الأوان وكيف ترسل
الأشارة الى ثمراتها لتجف وتعاقب الجاني وما نوع الإشارة التي ترسلها الخستاوية هل هي
كهربائية أم كيمياوية وهل هناك سيطرة في جسد النخلة ... الله أعلم.
وتحدث
كل سنة في البساتين في تمور الخستاوي خسائر حين يقوم بالقطف صبية غير عارفين
بالحالة أو أن البعض لايستطيع مقاومة إغراء الثمار من النخيلات الشابة التي يتدلى
ثمرها ويكون في متناول اليد .
على
أية حال بعد إكتمال تمرة الخستاوي نموها يتحول لونها الى الأسود وتجف بعض الشيء
وفي الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي كنا نكبسها في الزير (البستوكة ) للحفظ كجزء من
الخزين الغذائي للشتاء وتكون عادة غاية في طيب المذاق أو تكبس في جلد الغنم الكامل المدبوغ ( الكيشة ) ويأتي بعد الزير في المذاق ومن ثم في
الخصاف المنسوج من ورق سعف النخيل أما الآن فيكبس تمر الخستاوي في أكياس النايلون ويستعمل للأكل في الشتاء
وللحلويات وخصوصا كليجة العيد .
وبالإضافة
الى تمور الخستاوي والزهدي تنتشر فرادى في بعض البساتين نخيل البربن والمكتوم
والأشرسي.
حصاد
التمور (الكصاص)
كان
يوم الكصاص بالنسبة لصاحب البستان يوما كبيرا من أيام السنة فهو يمثل ايراده
النقدي الأساسي من البستان من تمر الزهدي وبالنسبة للقرية يمثل يوم انتهاء ثمار الربيع
والصيف والولوج الى فصل الشتاء وانتهاء التغذية العفوية من ثمار وخضروات البساتين والإنكفاء
الى البيوت والإقتتات على الخزين الجاف .
قبل
يوم من الكصاص يبلغ صاحب البستان الكاصوص وهو عادة أحد الشبان الرشيقين في المنطقة
(خفة الوزن للوقوف على سعف النخلة مطلوبة ) إن لم يتوفر في العائلة من يقوم بهذه
المهمة وينشر الخبر في المنطقة ليكون لدى الشابات الراغبات بجمع المحصول الحضور
للغرض المذكور ويطلق على هؤلاء الشابات بالطواشات . ويقوم صاحب البستان بتوفير مفرش من المشمع (يستعار من الجيران إن لم يتوفر
) وكذلك "سابل" وهو وعاء منسوج من خوص النخيل ويكون بطول متر وربع
تقريبا وارتفاع نصف متر يوضع عل ظهر الحمار لينقل المحصول الى بيدر التمر ويسمى
الحضيرة .
وتبدأ
العملية بالبسملة من قبل الكاصوص وهو يقص
أول عثق ويرمي به الى الاسفل على المفرش وتبدأ الطواشات بجمع التمر المتناثر خارج
المفرش وهن يرددن الأغاني والردات الشعبية ومن ثم يبدأ الحمار رحلاته المكوكية بين
النخيل والحضيرة .
لا
يتقاضى الكاصوص والطواشات أجورهم نقدا بل يتقاضونها عينا بالتمر فللطواشة زنبيل من
التمر وللكاصوص شكبان من التمر (سعة عباءة (بشت)) ليعودوا الى بيوتهم في المساء
محملين بأجورهم .
قد
يستغرق الكصاص عدة أيام حيث يستمر جمع المحصول في الحضيرة وقد تتعرض الحضيرة في الليل الى السرقة وعلى صاحب
البستان أن يحرسها خلال الفترة ولازلت أتذكر أحد ليالي الحراسة في منتصف الخمسينات
من القرن الماضي حيث كنت وجارنا مبدر نحرس حضيرتينا المتجاورتين في ظلمة الليل
وكانت معي روايتين لجبران خليل جبران .
في الليل سألني مبدر وهو أمي ما هذه الكتب قلت :
روايات مهاجر
قال :
وهل لك أن تقرأها لي ؟
قلت :
كيف وهذا الظلام ؟
نهض
على الفور وأحضر الكثير من سعف النخل اليابس وأوقد النار قائلا هيا بالله عليك إقرأ.
بدأت أقرأ مستقويا في قرارة نفسي بإختراق
كلمات جبران للظلام الدامس المحيط بنا وما قد يحويه من إنس وجن يتربصون بنا
أوببيدرنا من التمر. واستمر مبدر يديم
النار ويصيح الله الله بين الحين والآخر كلما أثر فيه جمال عبارة أو حسن القاء .
الحيافة
(سرقة المواشي ) والحكواتي ونباح الكلاب
لم
يكن تصميم القرية الدفاعي الذي أشرنا اليه إعتباطا لأنه كان ناجما عن حقيقة أن ممارسة
السرقة " الحيافة " كان عملا
محترما في ثلاثينات وأربعينات وخمسينات القرن الماضي في قرى العراق بصورة عامة وكان
يعاب على الشاب من قبل أمه أو أخته أو زوجته اذا بلغ الرجولة ولم ينخرط مع ثلة من
أقرانه في ممارسة الحيافة و ينام ليله في بيته وقد ينشدنه للتأنيب "نايم يا شليف الصوف نايم والبعورة تحوف"
ولانريد هنا أن ندخل في تصاريف وأصل كلمة " البعورة" ونكتفي بالقول
بأنها تدل على قلة الشأن .
كان
للحيافة أصولها وطقوسها فلا يسرق الحائف جاره بل يذهب مع شلته الى القرى البعيدة
حيث يكمنون قرب الدار المراد سرقتها حتى يتأكدون من نوم صاحب الدار وبعد ذلك تتم
إزالة جدار الحطب للدار أو فتح فجوة في جدار الطين ليتم من خلالها إقتياد الماشية .ويأخذ
اللصوص غنيمتهم ويؤمنوها عادة لدى أحد معارفهم بإنتظار تسوية الأمر مع صاحب المال
.
أما
سكان القرية فكانوا يسهرون الليالي في حراسة مواشيهم وقد يتناوبون على ذلك ويتنادون
في الليالي لأعلام الكامنين من اللصوص بأنهم يقظون وغير نائمين ويكون لكلب الدار الذي يترك خارجها
دور أساسي في التنبيه على وجود اللصوص أو الحيوانات البرية .
كانت
عمليات السرقة لاتتم في الغالب عنوة وبالقوة ولاتعني أيضا في الغالب الخسارة
النهائية للمواشي حيث يبدأ صاحب المواشي المسروقة بالإستفسار عن مجاميع الحواف
العاملة في المنطقة ويبعث لهم من يتفاوض معهم وقد يبعثون هم من جانبهم أحدا الى
صاحب الماشية ليعرض عليه التوسط في إرجاع الماشية لقاء بضعة دنانير ما يعرف آنذاك
بالـحلاوة لتعود الأمور الى نصابها
وتستأنف عمليات الحيافة والنطارة ( الحراسة ) من جديد .
يبدأ
ليل القرية عادة عند المساء وجلوس العوائل للعشاء اذ تبدأ بنات آوى في العويل
العالي في البساتين كل ليلة لمدة ربع ساعة تقريبا وكأن لديها نداء تجمع
أو تعداد وعادة ما تحفز نداءات ابن آوى كلاب القرية على الرد بالنباح
المتواصل والتهديد بالهجوم ولكن من مواضع ثا بتة لا تتجاوز محيط القرية ورغم أن
بنات آوى هذه غير نباتية الا أنها تهوى اقتطاع صغار الخيار وعضعضته ورميه مثيرة
بذلك حنق المزارعين عند تفقد مزارعهم في الصباح .
بعد
العشاء يجلس افراد العائلة قرب موقد النار حيث قوري الشاي داخل الغرف في الشتاء وفي باحة الدار في الصيف وحيث أنه لم يكن هناك راديو أو تلفزيون فهم يتحدثون في أمور الحقل وأخبار ألولاية (الحلة ) .
قد يكون هناك ضيوف من قرى بعيدة قطعوا رحلتهم باتجاه المدينة وحلوا في قريتنا القريبة منها ويكون وجودهم
مسليا عادة لأهل الدار وقد تكون هناك زيارة من أحد الجيران لقضاء أمسية مع العائلة
(التعلولة ) ومن الزائرين المفضلين لدي واخوتي وأخواتي الجار الحكواتي الذي يقص
علينا أخبار ومغامرات السعلوة (الغولة آكلة الأطفال) أوأخبار البعيوة (عقيلة ابن
آوى (الواوي ) وأم أبنائه ) حيث نجلس متسمرين خائفين في أماكننا وعيوننا الصغيرة
تلمع في ضوء الفانوس الخافت أو ضوء القمر في ليالي الصيف المقمرة ومن هؤلاء
الجيران الرواة كان المرحوم صاحب الناهض وابنه المرحوم مهدي والمرحوم عبد الحمزة
الشمران .
بعد
التعلولة يأوي الجميع الى الفراش ورغم أن
الوالدين ينامون أيضا الا انهم متعودون على الإستيقاظ عند تغيرانماط نباح
كلبنا خارج الدار وكلاب القرية بصورة عامة التي قد تأخذ عدة أنماط ولكل نمط دلالة
قد يترتب عليها إجراء معين فعندما يزمجر الكلب (يزير ) يكون على وشك الإشتباك مع
كلب آخر أوحيوان بري وعادة ما تهمل هذه الحالة الا إذا تطورت الى الحالة الثانية
عندما يطلق الكلب صوتا بنبرة رفيعة عالية تنم عن الألم عندها قد تعني انه تعرض الى
ضربة من بشر أو عضة من حيوان مما يتطلب
الأستطلاع ولو من السطح إذ قد يكون المعتدي حرامي . إذا استمر الكلب بالنباح
الشديد مع ما يدل عل الحركة و تغيير المسافة فانه في هذه الحالة يحاول منع شخص أو
أشخاص من دخول المنطقة ويلاحقهم في سيرهم مع محاولة مباغتتهم وعضهم وفي هذه الحالة
قد يطلق صاحب الدار اطلاقات نارية تحذيرية باتجاه الصوت ان توفر لديه سلاح ناري أو
ينادي على الجيران بالحيطة والحذر (دير بالكم ) بهدف إبلاغ ساري الليل بأن القرية
تعرف بوجوده .
ينبح
الكلب أحيانا بنبرات ثلاثية متقطعة ويستمر فترة طويلة على ذلك وعند تدقيق الهدف في هذه الحالة يتبين أن لا
شيء هناك ويعتقد البعض أن نباح الكلب هذا ناجما من أنه يرى ما لا يراه الإنسان من الجن .
من
أبغض الأصوات التي قد يطلقها الكلب في صمت الليل هو العواء المشابه لعواء الذئب
ويعتقد الناس هنا أنه يشم رائحة الموت ويتطاير من لديه مريض خوفا ويذهب لمطاردة
الكلب بالحجارة لإيقافه عن العواء .
هلال
العيد
في
أواخر الأربعينات من القرن الماضي ولعدم وجود الراديو والتلفون بعد لدى أهالي
القرية كان تحديد حلول العيد يتقرر من قبل سكان القرية أنفسهم دون الحاجة الى فتوى
رغم أن القرية لا تبعد عن مركز لواء الحلة سوى نصف ساعة تقريبا مشيا على الأقدام .
عند
الغروب في الأمسية التي يتوقع أن يظهر فيها الهلال يخرج ثلة من رجال القرية ومعهم
بندقية الى أكتاف جدول البازول يتفحصون
السماء بحثا عن الهلال وعندما يلوح لهم الهلال يبدأ حامل البندقية بالرمي تجاه
الهلال .وحيث ان القرى الأخرى تكون قد فعلت الشيء ذاته فما هي إلا ثواني وتسمع صوت
الإطلاقات تتجاوب مع بعضها عبر القرى ولمسافات بعيدة ويحل العيد .
أما
نحن أطفال ذلك الزمان كنا نفيق مبكرا
لندشن دشداشة العيد ذات اللون الشكري القابل للصبغ حيث أنها تفسل ويتم خزنها لتخرج
مرة ثانية لتصبغ باللون الأسود وتلبس أيام عاشوراء .
قضاء
أيام العيد كان بالنسبة لنا وفق جدول ثابت حيث نذهب في اليوم الأول الى مرقد
الامام إبن الحسن بحدو ثلاثة أرباع الساعة سيرا على الاقدام حيث يتجمع القرويون هناك ويشكل
الشباب عادة حلقات الجوبي ويصدح صوت المطبك (آلة موسيقية من أنابيب الخيزران) بمرافقة
المغني (الكوال) .
اليوم
الثاني مخصص للذهاب الى مرقد الإمام عمران إبن علي قرب آثار بابل ويتم الذهاب الى
هناك بالباصات الخشبية أو حتى سيارات الحمل بعشرة فلوس للنفر ويتجمع الناس وتشكل
حلقات الجو بي . وفي الصيف يكون البقاء قليلا بسبب حرارة الشمس لعدم وجود أشجار في الساحة أمام المرقد.
اليوم
الثالث مخصص للذهاب الى مرقد النبي أيوب بنفس الوسائل و الإجور .ويقع هذا المرقد
في الجانب الثاني من شط الحلة (الصوب الكبير) وعلى أطراف المدينة ووسط غابة من
أشجار النخيل وعلى ضفاف الشط وبجانبه بئر قديم .ويكون الإزدحام في هذا المكان
الضليل كبيرا جدا مقارنة بالموقعين الآخرين
وتنصب فيه أراجيح كثيرة من جذوع النخل مربوطة بحبال بأشجار النخيل وتباع في
هذا المكان المشروبات الغازية التي تسمى بالسيفون والنامليت ويكون هذا اليوم أفضل
ألأيام بالنسبة لنا حيث نتفرج على حلقات الجو بي الكثيرة وعلى الشباب والشابات بملابس العيد
الجديدة .
الحفلة
الكبرى
إتفق
أهالي القرية أواخر الأربعينات على طهور جمماعي لأولاد القرية وإقامة إحتفالات على
مدى عشرة أيام بهذه المناسبة وذهب وفد منهم الى منطقة الكاولية (الغجر) لإحياء هذه
الحفلة.
تألفت
فرقة الكاولية من ستة رجال وثمان بنات وحلت ضيفا على أحد البيوت وكان سياق العمل
في المساء أن تمد البسط والحصران على محيط مساحة من الارض بحدود 10 م x 20 م وتعلق الفوانيس الكبيرة (اللوكسات) على
أعمدة مثبتة وسط الساحة . تأخذ فرقة الرجال الغجرية مكانها على الضلع الأصغر من
المستطيل وهي تتألف من ناقري الطبل وعازف ربابة واحد يكون في بعض الاحيان المغني
أو الرداد .تجلس نساء القرية للفرجة خلف الفرقة ويجلس الرجال والضيوف على الثلاثة
أضلاع الباقية من الساحة ويجلب بعض الرجال
العرق والمزات لزيادة المتعة .
يصدح
الطبل والربابة وتنزل الى الساحة الوجبة الاولى من أربع كاوليات يرتدين الفوطة /الشيلة على رؤسهن ويرقصن بحركات دائرية في
الساحة لمدة ربع ساعة تقريبا وأثناءيختار بعض الرجال جليسات منهن لفترة الإستراحة ويتم الإختيار بأن يقوم الرجل بأخذ
شيلة من يريد مجالستها لتأتي عند انتهاء وصلة الرقص لتجلس بجانبه ومن لاتؤخذ
شيلتها تعود خائبة لتقضي الاستراحة مع الفرقة وعندما تنتهي الاستراحة تضع البنت
الشيلة على رأسها وتستلم أجرتها عن المجالسة والذي كانت آنذاك مائة فلس وتسلمها الى
كبير الفرقة وتنخرط في الرقص من جديد حيث تأخذ الوجبة الثانية من الراقصات استراحتها وهكذا تستمر وصلات الرقص والغناء الى وقت
متأخر من الليل .
غالبا
ما تكون الغجريات غير جميلات وإن حدث وكانت احداهن جميلة أو مغنية جيدة يذيع صيتها
وتطلب فرقتها في حفلات الأعراس والطهور ويتشجع البعض على القيام والرقص أو
الغناء معهن أثناء الحفلة واطلاق النار من البنادق والمسدسات كعلامة إستحسان .
وتغنى عادة آخر الأبوذيات والبستات السائدة في ذلك الوقت.
في
اليوم العاشر يكون هناك عشاء لكل الحاضرين قبل آخر حفلة .
طبعا كنا سعيدين جدا بهذه الحفلة الليلية
الممتعة على مدى الأيام العشر وحالمين بجمال أجمل الغجريات (عبلة ) صاحبة الوجه
الدائري الأبيض كالبدر التمام والعيون السوداء
مجللة بشعر كسواد الليل الحالك . ولكن مع
صباح اليوم الحادي عشر يذهب الفرح وينتهى الأنس ونجلس على الفراش بدشاديش بهيجة
بإنتظار سكينة المطهرجي .
وعندما تأتي اللحظة الحاسمة يمسك الأشداء من الرجال بأيدينا
ويفتحوا أرجلنا بالقوة المفرطة ويصيح الأهل : باوع عبودي ليفوك (للأعلى ) طيور ذهب
طايرة بالسماء وحينها تتسلل سكينة المطهرجي لتجز التغليف الزائد لآلة
التكاثر .
بابل - العراق - البكرلي